استمع عبد الإله بلقزيز لا تُشبه أزْماتُنا، في الوطن العربي ومحيطه الإسلامي والجنوبي، أزمات بلدان الغرب، على نحو ما تبدَّت عليه في حقبة العولمة إجمالاً، وفي هذا الطور الأخير منها - على نحو خاص - الذي دشنته الأزمة المالية العالمية في العام 2008. الأمثلة على الاختلاف في نوع الأزمات العاصفة بالعالميْن عديدة نختار منها واحداً من أظهرها جميعاً هو مثال المسألة الكيانية، وما تشهده هذه من تغيّرات طارئة بفعل الضغوط الهائلة التي ألقتها العولمة على البلدان (المجتمعات والدول) هنا وهناك. ليست المشكلة الكيانية في بلدان الغرب (هي) عينها في بلداننا، غير أنّا نشهد جميعاً - عرباً وغربيين- على ميلاد أزمةٍ في الكيانات القائمة بقطع النظر عن الفارق في طبيعتها وحدّتها من عالم إلى آخر، والأثمان المدفوعة جرّاء مفاعليها. وكما يستبدّ هاجسُها بالسياسيين والباحثين والرأي العام هناك، على درجات من التهجّس متفاوتة، كذلك ينشغل بأمر استفحالها، في بلدان الجنوب، السّاسة والمثقفون والقطاعات الحية من المجتمع. على أنّ ميلادَ مسألةٍ كيانية في الغرب ظاهرةٌ حديثةُ النشأة، منذ نجاح المجتمعات الغربية في بناء الدولة القومية الموحَّدة؛ وهو (ميلادٌ) اقترن - ويقترن- بلحظةٍ من العولمة هي لحظة انزياحها عن خطّ سيرها الصاعد والظافر (في الغرب)، وشروعها في توليد ظواهر وأوضاع جديدة باتت تمتحن، اليوم، بلدان الغرب نفسها: لا في قدرتها على المنافسة فحسب، بل في قدرتها على البقاء متماسكة. وليست تلك حالُ المسألة الكيانية في بلدان الجنوب -ومنها الوطن العربي- حيث تضرب جذورُها عميقاً في التاريخ الحديث، وتعود إلى الحقبة الكولونيالية ومواريثها، وإن هي اتخذت منحًى دراماتيكياً خطيراً منذ انطلقت الموجات الأولى للعولمة قبل ربع قرن. في أوّل عهد العالم بالعولمة، بدا كما لو أنّ هذه الأخيرة تدعو الدول الكبرى إلى تناسي كياناتها وحدودها القومية الموروثة للانخراط في سيرورة جديدة من التَّبَنْيُن Structuration الكياني فوق القومي، توفِّر به - ومن خلاله- إمكان التأقلم الإيجابي مع موجبات العولمة وأحكامها الجديدة غير القابلة للدفع بإعمال الأدوات الدفاعية أو (الحمائية) القومية التقليدية، مثلما توفّر به إمكان الاستفادة من ثمرات هذه الحركة الكونية الجديدة من تَدفّقِ الموارد والمصالح التي تحملها العولمة. كان كلّ شيءٍ في العالم يتغير، بإيقاعٍ سريع، وتتغيّر معه - بالتبعة- الحدودُ، والمعايير، والأدوات، والقوى، والمصالح، ومنظومات التفكير: فالحدود تُسْتَباح وتتساقط لا بالجيوش الزاحفة، وإنما بالسِّلع والرساميل ونظم المعلومات بما تنوء بحملِ عبء الردّ عليه أيّ سياسة حمائية؛ وتوازنات القوى تهتز بين من يملكون القدرة الصناعية أو العسكرية ومَن يملكون القدرة التِّقانية والمعلوماتية؛ والرأسمال يهاجر من مَواطِنه فيتخلّى عن صفته القومية ليصبح عالمياً عابراً للأوطان؛ والشركات والبنوك تندمج ليَعْظُم رأسمالُها وتَعْظُم معه فرصُ ربحيتها، بل قدرتها على البقاء في محيطٍ من المنافسةِ جديدٍ وصعب؛ والسيادات الاقتصادية تتداعى تحت ضربات الاختراق اللامحدود للمنتوجات والسّلع، فتصبح الصناعات والزراعات عرضة لامتحانٍ وجودي تنجح فيه بالتكييف، أو تُخفِق فيه بالممانعة والانكماش؛ والمعلومات تتدفق بغزارة، عبر الشبكة العنكبوتية والإعلام الفضائي ووسائل التكنولوجيا الرقمية، فتُحطّم الحدود والسيادات الإعلامية والثقافية، وتتدخّل، تدخّلاً فاعلاً، في تشكيل الرأي العام وإعادة صوغ الأذواق والمعايير ومنظومات القيم؛ والمنظومات القانونية الدولية تتكيف مع هذه التحوّلات فتفرض مرجعيتَها الحاكمة على القوانين المحلية (القومية) لتفرض عليها، هي الأخرى، أن تتكيَّف معها... الخ. وفي هذا المناخ الحادّ من التغيّر الهائل، كان على الدول أن ترفع معدّل استعدادها للتكيّف الإيجابي، بل بَدَا -في حالاتٍ من التقدير الإيجابي لما يجري- كما لو أنّ العولمة تقترح على البشرية، ( على الغرب تحديداً) أفقاً كيانياً جديداً أرحب من حدود الأقفاص القومية. في مناخ هذه المتغيرات العاصفة، ومن رحم نتائجها، تولَّدت ظاهرة الكيانيات فوق - القومية في صورة تجمعات إقليمية وقارية كبرى مندمجة. لم تولد هذه من عدم؛ كان لها شكلٌ من الوجود، في ما مضى، مثّلته مجموعات اقتصادية تعاونية وأسواق إقليمية وشبه قارية مشتركة فرضتها معطيات حقبة الحرب الباردة وحاجات إعادة البناء الاقتصادي. وليس يعني ذلك أنّ العولمة لم تكن أكثر من امتدادٍ لموجات التعاون السابقة واستئنافٍ لها في صورةٍ أعلى؛ ذلك أنّ نوع التوحيد الذي فرضته يختلف عن أشكال التوحيد الأخرى السابقة في أنه رفع قيود الحدود القومية عن عملية الاندماج داخل الأطر الاتحادية الجديدة. في الماضي القريب، قبل ربع قرن، لم يُلْقِ التعاونُ الاقتصادي والتجاري بين الولايات المتحدة وكندا والمكسيك قيْداً على الاستقلال القومي لأيّ دولة من الدول الشريكة فيه، ولم تكن مفاعيله لتتخطى -نهائياً وبصورة قاطعة- أحكام التجارة الدولية، مثلاً، كما رسمتْها معاهدة الغات السائدة حينئذ. وبالمثل، لم تدمِّر السوق الأوروبية المشتركة وسياسات الجماعة الأوروبية الأطرَ التقليدية للدولة القومية في أوروبا؛ فما كان التوحيد التعاوني، في ذلك الإبّان، يقتضي إعادة صوْغ كيانات الدول القائمة، وإنما توفير مقوّمات تعزيز بنيانها ككيانات قومية بعيداً من خيارات أخرى للتعزيز جُرِّبت سابقاً، وفي جملتها الحرب أو الهيمنة. أما التوحيد الذي فرضتْهُ العولمة فمختلفٌ في الطبيعة؛ لأنه جرَّد الدول القومية من أساس سيادتها واستقلالها (الاستقلال الاقتصادي) واقترح عليها سيادة أعلى: عابرة للقوميات، حتى وإن كان لها مركز قائد (الولايات المتحدة بالنسبة إلى مجموعة النافتا؛ ألمانيا بالنسبة إلى الاتحاد الأوروبي)؛ ولأنه عزّز الاندماج الاقتصادي والتجاري (والوحدة النقدية في حالة أوروبا) بإجراءات قانونية لتحقيق الاندماج السكاني وتوحيد السياسات الاجتماعية، بل لقد ذهب أحياناً -كما في الحالة الأوروبية- إلى توحيد السياسات الخارجية (المفوّضية الأوروبية)، وقارب أن يفعل الشيء نفسه في السياسات الداخلية لولا المفعول العكسي لبعض الكوابح. hminnamed@yahoo.fr