ثمة مسار غريب للأحداث دفع بلفتنانت جنرال المتقاعد مايكل فلين نحو اتصاله الهاتفي المشؤوم أواخر ديسمبر (كانون الأول) مع السفير الروسي سيرغي كيسلياك، والذي وضع نهاية مسيرة مهنية عسكرية مميزة. ويصفه زملاؤه السابقون في المؤسسة العسكرية والاستخبارات ممن عملوا معه، بأنه شخص ذكي خدم في قيادة العمليات الخاصة المشتركة منذ عقد، الأمر الذي لم يعدّه جيدًا للتحديات الأوسع التي واجهها كرئيس لوكالة استخبارات الدفاع، والتي عزل منها عام 2014، ومنصب مستشار الأمن الوطني الذي استقال منه مساء الاثنين الماضي. وقال مسؤول سابق بالبنتاغون كان من رؤساء فلين: «داخل عالم قيادة العمليات الخاصة المشتركة، يساورك شعور بأنك أشبه بسوبرمان». واستطرد بأنه «بعد الإحباط الذي أصابه من تجربته في وكالة استخبارات الدفاع، رغب فلين في نيل تقدير أي شخص». الواضح أن الروس انتبهوا لذلك، واستجاب فلين. وفي خضم ذلك، يرى جنرال يحمل على كتفيه أربع نجوم درسًا مؤلمًا في الأمر برمته: «تبدو قصة فلين عبرة للضباط العسكريين السذج الذين يسبحون مع أسماك القرش، وأحيانًا يصبحون أصدقاء لهم». كان فلين قد صنع لنفسه اسمًا لامعًا من خلال نجاحه في صياغة التكتيكات التي انتهجتها قاعدة العمليات الخاصة المشتركة ضد تنظيم القاعدة في العراق. وبفضل هذه التكتيكات، كانت تجري معالجة المعلومات الاستخباراتية التي جرى الحصول عليها من غارة ما في غضون ساعات قلائل، وكذلك المعلومات التي يجري الحصول عليها من هواتف جوالة وأجهزة كومبيوتر متنقلة. وأشار أحد زملاء فلين إلى أنه داخل هذه العمليات بالغة السرية التي نفذتها قيادة العمليات الخاصة المشتركة، ساد شعور بـ«أننا نغزو العالم». واستمر نجم فلين في التألق رئيسًا للاستخبارات بالقيادة المركزية الأميركية، وبعد ذلك داخل هيئة الأركان المشتركة بالبنتاغون، وأخيرًا في أفغانستان، حيث التقيته. وجاء قرار تعيينه رئيسًا لوكالة استخبارات الدفاع عام 2012 بمثابة نقطة الذروة لمسيرة مهنية ناجحة. بعد ذلك، بدأت أشياء سيئة في الحدوث، بعضها ارتبط بروسيا، وبدأ مسار حياة فلين المهنية يتحول باتجاه الكارثة التي عصفت به. المعروف أن وكالة استخبارات الدفاع التي تسودها حالة من الفوضى ويعمل بها قرابة 20 ألف شخص غالبيتهم من المدنيين، اشتهرت بكونها الأقل إنجازًا في صفوف مجتمع الاستخبارات. من ناحيته، حاول فلين إصلاح كل شيء مرة واحدة. ووضع نصب عينيه خطة طموحة، لكنها افتقرت إلى الواقعية، لتقسيم الوكالة إلى مراكز مهام. ورفض رؤساؤه الخطة، ومع ذلك مضى فلين قدمًا في تنفيذها على أي حال. بمرور الوقت، أصبح فلين متحمسًا بخصوص تحسين الاتصالات مع روسيا، التي نظر إليها باعتبارها شريكًا طبيعيًا في مجال مكافحة الإرهاب. وزار بالفعل وكالة الاستخبارات العسكرية الروسية عام 2013، وعاد من الزيارة وهو يدعو إلى توثيق التعاون مع روسيا بمجال مراقبة الأسلحة الكيماوية السورية. بعد إجبار فلين على الرحيل عام 2014، اشتكى من أن الإطاحة به تعكس خلافات بخصوص الاستراتيجية المتبعة في الشرق الأوسط. أما زملاؤه في ذلك الوقت فيرون أن الأمر لا يعدو كونه إخفاقًا إداريًا، بوضع ضابط كفء في منصب خطأ. واستمر فلين الذي حمل بداخله مشاعر مرارة دفينة، في الدعوة إلى توثيق التعاون مع روسيا، وبدأ إصدار انتقادات لاذعة لإدارة أوباما. وفي ديسمبر 2015، أقدم فلين على شيء ظل يطارده بعدها، حيث ألقى خطابًا مدفوع الأجر في موسكو في الاحتفال بالذكرى العاشرة لانطلاق «روسيا اليوم»، شبكة عالمية تصفها الاستخبارات الأميركية بأنها «الأداة الرئيسية للدعاية الدولية للكرملين». ودفعه مذيع «روسيا اليوم» لقول أمور إيجابية عن التعاون الأميركي - الروسي، وبالفعل سار فلين على هوى المذيع الروسي. في موسكو، قال فلين: «توقفوا عن التصرف كما لو كنتما اثنين من (الفتوات) داخل ساحة. إنه زواج، سواء شئت أم أبيت، وهذا الزواج يمر بفترة عصيبة للغاية الآن». وخلال مقابلة منفصلة مع «روسيا اليوم» في موسكو، دعا الدولتين للتشارك في الاستخبارات والمعلومات حول «الجماعات الإرهابية». كما جلس فلين بجوار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال مأدبة عشاء أثناء رحلته تلك عام 2015. واستمرت علاقات الصداقة خلال عام 2016، وحتى في الوقت الذي صعّد الروس ما وصفته الاستخبارات الأميركية بأنه هجوم سري ضد الانتخابات الأميركية، أجرى فلين اتصالات عدة مع السفير كيسلياك. وجاء الاتصال المشؤوم في أواخر ديسمبر، عندما ناقش الاثنان العقوبات الأميركية ضد روسيا، في وقت كانت إدارة أوباما تطرد 35 روسيًا. في الواقع، سقوط فلين قصة مؤلمة يبقى بها كثير من التساؤلات دونما إجابة، ربما يكون أبرزها: لماذا يقدم جنرال متقاعد تمرس على مدار حياته عبر سلسلة قيادة، على الاتصال بالسفير الروسي دون استشارة رئيسه، ترمب؟ أو على الأقل هذه هي الرواية التي صدرها البيت الأبيض للأحداث، لكن يبدو أن ثمة «روسيا غيت» في طريقها نحو التكشف.