في كل مرة يتجدد فيها الصراع الإقليمي العربي في المنطقة، ترتفع وتيرة المواجهة العلنية، وتتعالى أصوات الشد والجذب في الخطابات السياسية، ثم تنتقل فيما بعد لتتبلور في الفتاوى الدينية، التي تنفض مشاعر المواطن العربي من سباته، وبعدها تتلاشى دروس وعِبَر ما قد مضى من التاريخ. ليجد المواطن العربي نفسه مرة أخرى يخرج من ركام الجراح والمعاناة إلى خندق أكثر دماراً وخراباً في مواجهة المصير الذي قدر له ضد ما يسمى بالشيطان الأكبر، الذي لا يراه إلا كما يصوره الزعيم له من خلال كلماته التي تذكي الصراع العربي بالشعارات القومية، وتشعل فتيل الطائفية كذلك، والتي طالما كان الاستعمار يغذيها من قبل، ويخطها من داخل مقراته لزعماء من ورق، عبر مراحل متعاقبة من الزمان، كان فيها أولئك الزعماء مجرد عملاء يتسللون خلسة في جنح الظلام إلى مقرات ممثلية الحكومات المستعمرة، يتسابقون حينها في تقديم الولاء ونيل الرضا، وعند انجلاء الظلام يكون قد خرج ذلك المتسلل إلى سكان المستعمرة في ثوب وطني مقدس، ينادي باستقلال الأرض، وحرية الإنسان، يتبعه ما قد سخر له من أبواق ومطبّلين حتى يتهيأ للعموم أنه المخلص بأمر الله. وبما أن العرب لم يتعاملوا مع واقعهم الحالي بما تقتضيه مصالحهم الأخوية، وبما يمليه عليهم دينهم الإسلامي الحنيف، فإنهم لم يتعلموا أيضاً من تاريخهم شيئاً، ولا من ماضي تجاربهم عندما تشتد بهم الأزمات السياسية والهزات الاقتصادية، فقد يعزو البعض هذا التبلد الذي أصاب العقل العربي إلى حالة الوهن الملازمة في امتلاك قرار مصيره، وكذلك إلى بقايا الاستعمار المقيت الذي أوجد قواعد اللعبة السياسية في المنطقة، بعد أن حدد اللاعبين والحكام، وجعل افتراش خارطة العالم العربي كملعب للمناورة والتباري؛ ليتقاسم كل فريق جزءاً منه، فريق يتخندق في موقعه يتقلد الألقاب والرايات وينادي على نفسه بالقوى "المقاومة"، في مواجهة فريق آخر يتباهى بالحكمة والحنكة السياسية، ويعد نفسه من قوى "الاعتدال". والضحية كما نرى هو ذلك الوطن الذي استنزفت ثرواته، والمواطن الذي أنهكته أصوات السياسيين الخداعة، وحروب الجيران، حتى غدا مثل الكرة الممزقة والمهترئة من كثرة ما تقاذفت به أقدام الفريقين. عندما ظهر "لينين" الماركسي للعالم بفكره الثوري، وأسقط الحكم الإمبراطوري الروسي، لم يكن العرب في ذلك الوقت قد عرفوا لغة هذا الثوري الصادح من بعيد، أو أنهم كانوا قد أجادوا قراءة الأحداث وحسن التعامل معها، بل إنهم لم يستوعبوا قيمة الخدمة التي قدمها هذا الماركسي، عندما كشف للجميع وثيقة الاتفاق السري التي صادق عليها الإمبراطور الروسي آنذاك مع بريطانيا وفرنسا، والتي عرفت فيما بعد بـ"سايكس - بيكو" التي قسمت الوطن العربي إلى دويلات، ثم أرادت أن تعطي الأناضول للإمبراطور الروسي. فكانت هي المؤامرة التي أغضبت "أتاتورك" تركيا، وأصمَّت أذن العرب عنها، ولم ترَ أعينهم حينها سوى ما رآه لهم المستعمر البريطاني، وما لبثوا حتى عادوا يظهرون له حسن النوايا، ويجددون الثقة بالصديق الإنجليزي، مخفين عنه الظنون السوداء حتى لا يغضب. وكانت النتيجة أن استوطن اليهود في أرض فلسطين، بعد أن هجّر منها أهلها بوعد من بلفور الإنجليزي، وزرعت دولة إسرائيل في ظهر العرب؛ لتكون شوكة في خاصرتهم، وتعرقل كثيراً من خطط وبرامج البناء والتنمية في الشرق الأوسط، وكذلك تعطيل وحدة العرب وتوحيد كلمتهم مع المسلمين تحت مظلة أمة إسلامية موحدة ومؤثرة في الحضارة الحديثة للأمم. وكما أن اليهود قد لعبوا دوراً كبيراً ومهماً في إقناع بريطانيا بتقسيم بلاد العرب وتشرذمهم، فإنهم قد وضعوا الخطط الخبيثة والمؤامرات التي تزعزع أمن العرب، وتحقق لأنفسهم الاستقرار والسيطرة على مستقبل المنطقة العربية برمتها، وبما يخدم مصالحهم. وقد جاءت نهاية الحرب الباردة بين الروس والغرب لتنذر برياح التغيير وبتحوّل قطبَي العالم إلى الاصطفاف معاً، وتوحيد الجهود العسكرية والمخابراتية تجاه ما يخدم الترويج لمبادئ الحرية والديمقراطية الغربية، وتصفية كل الأنظمة والمنظمات التي تشكل خطراً فكرياً وعقائدياً عليهم. وجاء هذا التعاون ليعلن بداية عهد جديد من المعاناة، وصور جديدة من صور الحقد الصهيوني على أمة الإسلام، والشروع بالمرحلة الفعلية لتنفيذ الخطة الثانية من تمزيق الجسد العربي المتهالك، ومضاعفة جراحه، حتى عاد اليهود مرة أخرى بممارسة الضغوط على أميركا -التي حلت مكان بريطانيا في الشرق الأوسط- وإقناعها باعتماد مشروع المؤرخ الصهيوني "برنارد لويس"، البريطاني الأصل، اليهودي الديانة، الذي قال: "إن العرب والمسلمين قوم فاسدون مفسدون فوضويون، لا يمكن تحضرهم، وإذا تُرِكوا لأنفسهم فسوف يفاجئون العالم المتحضر بموجات بشرية إرهابية تدمِّر الحضارات، وتقوِّض المجتمعات، ولذلك فإن الحلَّ السليم للتعامل معهم هو إعادة احتلالهم واستعمارهم، وتدمير ثقافتهم الدينية وتطبيقاتها الاجتماعية". وهو الأمر الذي تم أخذه بجدية من قِبل الكونجرس الأميركي في عام 1983م، ووافق عليه بالإجماع في جلسة سرية باعتماد مشروع "برنارد لويس"، وإدراجه في ملفات السياسة الأميركية الاستراتيجية، على أن يتم تنفيذه على مراحل عدة، وفي خطة عشرية. ويهدف هذا المشروع إلى تفكيك الوحدة الدستورية لمجموعة الدول العربية والإسلامية جميعاً، كل على حدة، وتفتيت كل منها إلى مجموعة من الكانتونات والدويلات العرقية والدينية والمذهبية والطائفية، وهو ما ذهب إليه "صموئيل هنتينغتون"، الذي كان يرى أن حروب المستقبل سوف تأخذ شكلاً مختلفاً، ويكون نزاعاً محتملاً بين ثقافات متعددة وحضارات كونية، لكن "لويس" يريدها أن تكون حرباً شعواء على المسلمين، وعلى حضارتهم الإسلامية فقط. كثيراً ما حاول العالم الإسلامي التكيف مع الحوار، وتجنب الصدام مع مطلقي هذه النظريات العدائية التي لا تحتمل الجدوى في قبول أو احتواء حضارة المسلمين، ورغم هذا التباعد والفجوة الكبيرة التي أحدثها الطرف الآخر بعدم اعترافه بالإسلام كدين سماوي وبحضارته العريقة، وأمام هذا التشدد، سعى العالم الإسلامي إلى فتح نافذة التسامح والقبول بالتحاور مع كل الحضارات والأديان السماوية، فكان الرد هو أن تكون هناك ضربات وقائية تعجّل بوقوع التصادم، وأن تأخير حدوثها ليس في صالح الأنظمة العلمانية؛ لذلك حاولت أميركا التي ترعى الصهيونية صياغة مبررات مهَّدت فيها إلى دعوة الحلفاء لتعزيز تحالفهم العالمي ضد ما يسمى بالخطر القادم من الشرق، والتأهب للدفاع عن مكتسبات الإنسان المعاصر وحضارته الحديثة من الإسلام الراديكالي الذي يتصادم مع الانفتاح الحضاري الذي تعيشه الدول المتقدمة والصناعية. لقد تبددت أخلاقيات الدول العظمى في هذا العصر، وتكشفت أهدافها عندما أقرت في مجلسها الأمني التخلي عن السلم والسلام، واستبداله بصوت السلاح الفتاك تجاه دول عربية معينة، وزعزعت استقرار أخرى في محاولة لفرض أمر واقع جديد وتغيير استراتيجي في المواجهة العلنية. وجاءت الأحداث سريعة ومتتابعة خلال العشرة أعوام الماضية، ومؤسفة كذلك؛ إذ تخللها الكثير من الانتهاكات لحقوق الإنسان والممارسات غير الأخلاقية تجاه كل ما هو عربي ومسلم، حتى بدأ المشهد يتسع أكثر لأطراف أخرى بأدوار مختلفة وغاية واحدة، فدخلت روسيا وإيران، بتنسيق من أميركا وإسرائيل، في هذه المعركة من أجل تفريغ العراق والشام من جميع أهلها من السنة والعرب، وتغيير أيديولوجية الأرض والإنسان، بما يتناسب مع مطامع وأهداف الكيان الصهيوني. ورغم ما تعيشه بلاد الشام من فظاعة القتل والتهجير والتطهير العرقي، فقد أطلقت أميركا يد الميليشيات المسلحة للتنكيل بالنساء والأطفال هناك؛ بل ذهب البعض إلى المطالبة بإصدار قانون يمنح الحصانة لتلك العصابات من الملاحقة القضائية، كما هو حاصل للجندي الأميركي. ومع تعالي أصوات الاستغاثة من بلاد الشام لإخوتهم في البلاد العربية الأخرى بمد يد العون والمساعدة بالمال والسلاح، كانت أميركا قد لعبت لعبتها القذرة في تطويق هذه الدول، وإدخالها في احتراق داخلي تشل به حركتها، حتى لا تستطيع المواجهة والتدخل، أو أن تقف على ساقيها، فالشقيقة الكبرى للعرب "مصر" عادت إلى الوراء في هذه المحنة العصيبة، والتزمت الحياد والصمت وتعللت بثقل الحمل الداخلي وضعف الاقتصاد الذي يهدد الدولة بالإفلاس. فيما السعودية تكاد تكون هي الصوت الوحيد المرتفع من بين العرب، الذي يدافع مع تركيا عن حق الشعب السوري والتصدي للمد الصفوي في العراق والشام واليمن ولعنجهية بوتين، ولكون السعودية تعد دولة مركزية فهي أيضاً مستهدفة بالمؤامرة الكبرى، فالمملكة تواجه تحديات اقتصادية ومناوشات حوثية على الحدود الجنوبية، إضافة إلى الإرهاب، فيما يحاول اللوبي المعادي في أميركا تحريك قضايا الابتزاز والتعويضات أمام القضاء الأميركي لصالح ضحايا الحادي عشر من سبتمبر/أيلول، رغم أنها قد حصلت على أكثر من شهادة تبرئة رسمية أميركية أكدت عدم تورط السعودية لا من بعيد أو قريب في مثل هذه الجرائم. هذه الحقبة من التاريخ تعد من أشد المِحن التي يواجهها الإنسان العربي، ويختبر في دينه ووطنيته، فالتحديات والمخاطر أصبحت تحدق بالجميع من كل الاتجاهات بعد أن تكالبت دول الشر على سفك الدم العربي، وقعقع السلاح فوق رؤوس الأمهات الثكلى والأطفال اليتامى دون رقيب ولا حسيب من الأمم المتحدة، ولا من المنظمات الإنسانية. فليس أمام العرب لتحقيق السلام والتغلب على هذا الوهن إلا المواجهة الجادة للطابور الخامس، واستئصاله من مفاصل الدولة والوطن، وإجبار الآخرين على الاعتراف بحقوق المواطنة، والدفاع عن تراب الوطن، ومن يعيش فوقه من طوائف وأديان يتم التعايش معها تحت مظلة التسامح والمحبة من أجل سلام دائم. ولكي نمضي في هذا الطريق، يجب علينا الاستعداد لهذه المرحلة، ومن الغرب نقتبس مقولة الأب المؤسس للولايات المتحدة الأميركية جورج واشنطن: "الاستعداد للحرب هو أفضل الوسائل فاعلية للحفاظ على السلام". ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.