كالنحل في الدأب، والحماس, والجد, لا يغادر خليته قبل أن تتشكل قرصًا من الشمع, والعسل, منجزًا من الشراب الطيب الحلو.. منجزه لم ينقرض مذ خلق الله هذا الكائن الصغير العظيم في تكوينه, وملَكته, وما نقض عضو منه جهد نظيره, يؤسسون معًا, وينتجون سوية حتى يستوي قرص العسل على تمامه.. أنت, ذات يوم ستجد قرص عسلك ربما وأنت تصنعه, وقبل تمامه هناك في الخلية من الفريق من ينخره, وينقضه, وهناك من بعدك من يدلقه في التراب، فيذهب جهدك كالسراب.. وتأتي ذات يوم, وأنت قد غادرت دورك في المكان فلا تجدك.. لا تجد صوتك الذي أطلقته, وجهدك الذي أعطيته, ورأيك الذي قدمته, وعمرك الذي أفنيته, وبناءك الذي شيدته.. لا تجد الأوراق التي حبَّـرتها, وبالتفاصيل ملأتها, وبتأكيداتها وقعتها, ولا البناء الذي صممته, وأقمته, ولا النظام الذي رسمته, وطبقته, ولا القواعد التي أرسيت بنودها, ومثلتها بتفاصيلها, فأيامك التي لم تكن تجد فيها بالكاد ساعة راحة, ولياليك التي سهدك فيها قلقك نحو أمر, وقضية, ومشروع, وإعداد, وتفكير, ومشكلات, وحلول.. قد طويت, وطوى معها من جاء بعدك كل الذي كان منك زيادة, وجاء منك بلا حساب، وبدل أن يضيف, ويُعلي, وضعه في مهب النسيان, ثم طمره واعتلى, وطمس أي إشارة إليك وظهر, حتى أنت نسيك مع الذي منك أفنى.. من أجل ذلك أخلص لما عليك من الواجب, ولا تُنقِص, لكن لا تجهد نفسك كثيرًا إلا في منجز الإنسان ذاته, حين يقدر لك أن تعمل مع الإنسان فتكون له قائدًا, مقررًا, وفاعلاً فعلّمه حينئذ في مدرسة الاقتداء بصدق وإخلاص, افسح له أن يتعرف كيف يفي للقيم في أدائه, وكيف يتمثل الأخلاق في مسلكه, وكيف يترفع عن طمي إغواء التكسب في ميدان التنافس, والرغبة في المزيد, ليكون قادرًا على مواجهة الحياة, والغوص في بحرها بحيتانه, وذئابه, ازرع في نبتة قلبه برفق تعاملك الخير, وفي عقله ما لا يفنى من فسائل الطموح, والابتكار, أسس في ذاكرته أبجديات لا تضمر مفرداتها عن أمانة الأداء, والإحسان في العلن, والخفاء, أبجديات لا تضمحل حروفها بتبدل الأزمان, والمواقع, والأفراد, والمصالح, والرغبات, ولا تنسى, كن أمينًا معه كما أنت مع نفسك بإمعان, وامتداد, ونزيهًا بنبل, وإيثار, أعط حتى لا يبقى في أمر عملك شيء لم تُعْطِه, لكن بمقدار ما يطلبه, لا تخِلَّ بصغيرة في شأن دورك, ولا تتجاوز عنه بزيادة وقت, أو جهد تفاعل خارج عنه, أو تفكير متواصل فيه على حساب نفسك, فتظلم نفسك.. إنك إن تستثمر مسؤوليتك، ودورك حين يقدر لك أن تكون الأمور بيدك في الإنسان أكثر, فلسوف تصنع الإنسان, هذا الذي لن يهدَّ ما بناه غيره حين يقدر له أن يحتل مكانه, بل سيضيف للبناء بناءه, وستصمد المقدرات للزمن.. حينها لسوف لن تجلس يومًا تتأمل، فتخيب, وتتحسر.. بل ستفيض بك الطمأنينة وأنت تجد ما بنيت حيًّا قائمًا لم يطمس, ولم يبدد.