أردت أن أكتب عن الكفاح والإرادة الصلبة لذوي الإعاقة من خلال عرض قصة ناشطة أميركية تعرضت لخطأ طبي عند الولادة تسبب بإصابتها بشلل دماغي، لكن ذلك لم يقف في طريقها بل عملت على أن تحول هذه الإعاقة إلى وسيلة من خلالها تقوم بالتوعية ليس فقط عن حقوق المعاقين بل حقوق أطفال بلدها الأصلي؛ فلسطين، وقررت أن أبحث في الموضوع أكثر، وعادة حين تقوم بالبحث على الإنترنت تبحر من موقع إلى موقع وفجأة تقع عيناك على أمر لا تستطيع أن تتجاهله وتستمر في البحث عن موضوعك الأصلي.. كم صدمت حين وقعت عيناي على وحشية بعض البشر ممن ينصبون أنفسهم حراسا على البشرية بناء على ما يؤمنون أنه خطر عليها أو يعتبرون أن من حقهم حماية هذا الإنسان أو ذاك في الحياة... بحرمانه من الحياة! على طول تاريخ مسيرة البشرية يظهر لنا بين الحين والآخر مجموعة من المختلين عقليا يظنون أنهم أوصياء على النوع أو الجنس أو الفضيلة أو الفكر، ومن هذا المنطلق يجمعون من هم على شاكلتهم ويقومون بأفعال يندى لها جبين الإنسانية، فلو اطلعنا على تاريخ التعامل مع الإعاقة، خاصة إذا كان الجسد مشوها تماما، نجد أنهم تعرضوا لأقسى أنواع التعذيب والإبادة! ففي القرون الوسطى إن لم يتخلصوا منهم، كانوا يعتبرونهم جسد الشيطان، أشرارا يجب التخلص منهم، ثم بعد ذلك بزمن استخدموا للتسلية في السيرك، بل كان هنالك من يطوف البلاد للبحث عنهم وشرائهم وهم صغار من أهاليهم ليضمهم لمجموعته ويكسب الأموال من الجهلة عديمي الرحمة ممن كانوا يأتون للفرجة، وكم تعرض هؤلاء للسخرية، بل كانوا يرمونهم بالقاذورات ويضحكون على ردات الفعل من المساكين، لا دمع ولا صراخ، ولا ألم ولا استجداء كان يخترق تلك القلوب القاسية! ودخلنا القرن العشرين، فهل تغير الحال؟ كلا، بل كانوا يضعونهم في مصحات تأبى الحيوانات أن تعيش بها، وفي تاريخ النازية أنه كانت تقام عليهم التجارب في سبيل الطب والعلم، هذا إن لم يتخلصوا منهم لحماية الجنس "الآري" من التلوث! وعلى الطرف الآخر من العالم في الولايات المتحدة الأميركية، وفي ولاية شيكاغو بالتحديد ظهر لهم طبيب يدعى هاري هيزلدن، عرف نفسه بالإنسانية والرحمة، كان يرفض إجراء العمليات على المواليد الذين كان يرى أن الموت أفضل لهم من الحياة، بناء على مبدأ أنهم سيتسببون بألم لأسرهم وسيعيشون بألم ويكبرون ليكرهوا المجتمع الحاضن، وقد يجرهم الأمر إلى ارتكاب الجرائم إن استطاعوا، هذا عدا عن أنهم شر متلبس في أجساد بشر! لم يكتف الطبيب بذلك بل كتب يتحدث عن فكره المضلل والهمجي في الصحف المحلية، وقد استقبلت مقالاته الكثير من الصحف المعروفة وقتها منها " New York Times" و"New Republic"، بل إنه قام بإنتاج فيلم كتب له السيناريو وشارك بالتمثيل، أطلق عليه "اللقلاق الأسود Black Stork"، نسبة للمفهوم التراثي السائد لدى الأطفال عندهم بأن اللقلاق هو من يحضر المواليد ويتركهم عند باب الأسرة، وفي هذا الفيلم لم يخجل من عرض مشاهد في منتهى القسوة والبربرية البشرية تجاه مخلوق.. نعمة من الخالق سبحانه وتعالى! طبعا لم يتعرض للطرد من جمعية الأطباء إلا بعد أن خرج للعلن بآرائه، ولكن قبلها كان قد تسبب بموت الكثير من الأطفال المشوهين خلقيا، بغض النظر عن درجة أو نسبة هذا التشوه، برفضه إجراء عمليات تنقذهم أو القيام بها بطريقة تعرضهم للموت! غريبة كيف من يعمل في الظل يترك إلى أن تظهر تجاوزاته على الملأ، حينها يتحرك المجتمع ويحاسب! لنتخيل بأن هذا المعتوه أو أمثاله كان موجودا وقت ولادة هلين كلير أو ستيفن هوكينج أو طه حسين، كان سيتخلص منهم دون أن ترمش له عين! ولكن لماذا نتخيل؟! في عصرنا هذا ويومنا هذا.. يوجد بيننا من يحمل هذا الفكر المشوه ويطبقه على كل من يختلف معه في الفكر أو المذهب أو الطائفة، فيحكم عليهم بالموت، ويجلجل به عبر كل وسيلة تقع تحت يده أو سيطرته، وللأسف الشديد يجد من يطبق له حكمه بلا تردد أو حتى وخز ضمير! لا يهم إن كان الضحايا أطفالا أو نساء أو شيوخا، فحسب ما يؤمنون به "الموت لهم ولنا.. أفضل"! والآن.. وبعد أن ظهرت لنا همجية هذا الفكر، بدأنا نتحرك! ليرحمنا الله وليكن معنا في مواجهة هذا الطاعون الذي أصبنا به!