هي، إذاً، السلطوية تلاحقني أينما ذهبت. موسم "سيجنال" لم تكن سوى بضعة أيام قد مرت على دخول السيد دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، عندما تواصلت هاتفياً مع صديق أميركي امتهن المحاماة سنوات ويعمل حالياً في مؤسسة قضائية لها صلاحية الرقابة على أعمال السلطة التنفيذية. تناوبنا التعبير عن رفض قرار ترامب المتعلق بمنع دخول مواطني عدة دول عربية وإسلامية لتأكيد أهمية تواصل الاحتجاجات السلمية وأنشطة منظمات المجتمع المدني التي تقدم الدعم القانوني والإنساني للضحايا. وحين سألت صديقي عن دور المؤسسة القضائية التي يعمل بها وهي معنية بغلّ يد السلطة التنفيذية عن العصف بالحقوق والحريات، طلب مني أن نتوقف عن الحديث وأن نتابعه بعد ساعات باستخدام تطبيق "سيجنال" الذي يتيح إجراء المكالمات الهاتفية وتبادل الرسائل النصية. تكرر طلب التواصل باستخدام "سيجنال" من أصدقاء يعملون في جهات حكومية مختلفة، ومن باحثين أكاديميين يهتمون بقضايا حقوق الإنسان، ومن صحفيين يُمعنون في تفنيد كارثية قرارات ترامب وسياساته المتوقعة. لم أكن في احتياج للاستعلام عن الخلفيات والأسباب، فالخوف من التنصت ومن تعقب إدارة ترامب معارضيها دون اعتبار لسيادة القانون ولضمانات الحقوق والحريات، في اشتداد يومي. ولم يكن عقلي ليمتنع عن تذكر الموسم الممتد لـ"نتكلم على سيجنال" في مصر وأجواء الخوف من التعقب والقمع منذ صيف 2013، والمقارنة بينه وبين الموسم الأميركي في شتاء 2017. حركة المقاومة فجر اليوم التالي لمسيرات النساء الحاشدة ضد إدارة ترامب (نُظمت المسيرات في 21 يناير/كانون الثاني 2017)، تواجدت في أحد مطارات العاصمة واشنطن؛ بغية السفر لإلقاء محاضرات في جامعة ستانفورد بكاليفورنيا. كان المشهد غريباً؛ صالات مزدحمة بالناس على غير عادتها وعادتهم في الصباح الباكر، لافتات كثيرة يرفعها مسافرون للتنديد بترامب وبعنصريته الفاضحة ضد النساء والمثليين جنسياً والمهاجرين غير الشرعيين والضعفاء والفقراء، في استمرار لأجواء المسيرات. استرقت السمع إلى حديث بين مسافرة متوسطة العمر ومسافر متقدم في العمر كان وقوفهما على مقربة مني. حملت السيدة لافتة كُتب عليها بخط اليد "نضال واحد.. معاً للدفاع عن كرامة النساء وحريات المثليين وحقوق المهاجرين غير الشرعيين"، وسألها الرجل عن شعورها في أثناء المسيرة وعن تقييمها للتنظيم ولمدى التنوع في هويات المشاركات والمشاركين (أما شعور السيدة، فكان الفخر، وتقييمها للتنظيم إيجابي، وقرأت التنوع كتعبير واقعي عن حال المجتمع الأميركي الذي يتنصل منه ترامب وينكره ناخبه). حين باغت الرجل السيدة مليحة الوجه بسؤال عن مكان سكنها في كاليفورنيا، توقعت أن يتطور حديثهما بعيداً عن السياسة وقضاياها (وهي عادة ما توفر مدخلاً هادئاً للتعرف الإنساني بين من يمتلكون رؤى متقاربة أو يدّعون امتلاكها) إلى محاولة صريحة من الرجل للاقتراب والظفر بموعد للقاء. غير أن الرجل أتبع السؤال بإخبار السيدة بكونه قد انضم ما إن أُعلنت نتائج الانتخابات الرئاسية في نوفمبر/تشرين الثاني 2016 إلى "حركة لمقاومة" ترامب بدأت في كاليفورنيا وتحركت منها إلى ولايات أخرى، وبكون حركة المقاومة السلمية تنشط حالياً لحشد الأعضاء وتنظيمهم وجمع التبرعات وإعداد خطط العمل السياسي والإعلامي. ثم طلب من السيدة التفكير في الانضمام إلى "الفرع المحلي" للمقاومة القريب من مكان سكنها، وقال لها إن زوجته تنشط في الفرع ذاته. ولم يكن منها غير أن وافقت على الانضمام الفوري. هنا، أيضاً لم يمتنع عقلي عن الاسترجاع الصامت لأحاديث متشابهة جرت على مقربة مني في مصر، وعن تذكر تفاصيل بيانات الإعلان عن تشكيل حركات "سلمية" لمقاومة النزوع غير الديمقراطي لرئيس منتخب في 2012 و2013 (كجبهة الإنقاذ) أو تشكيل حركات بالفعل سلمية لمقاومة الحكم السلطوي الذي عاد في صيف 2013 (كجبهة طريق الثورة "ثوار"). إذا جاء الطوفان عندما وافقت أغلبية من البريطانيين على الخروج من الاتحاد الأوروبي، تندَّر مواطنو الدول الأوروبية الأخرى على الكثافة المتوقعة لطلب الشباب البريطاني اللجوء إلى إيرلندا (جمهورية إيرلندا) أو ألمانيا أو السويد؛ هرباً من المستقبل المظلم. وحين أُعلنت نتائج الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة الأميركية، تداولت شبكات التواصل الاجتماعي أنباء (غير مؤكدة) عن توقف المواقع الإلكترونية لمصلحة الهجرة الكندية عن العمل؛ بسبب الارتفاع الرهيب لعدد مقدمي طلبات الهجرة من المواطنين الأميركيين. وبينما دللت حقائق الفترة التي أعقبت استفتاء الخروج البريطاني على أن تندُّر الأوروبيين الآخرين لم يكن في محله، تحولت السخرية من اندفاع بعض الأميركيين إلى مغادرة بلادهم والارتحال بعيداً عنها، وكذلك الأنباء التي أخذت بغير جدية بشأن طلبات الهجرة الأميركية إلى كندا، إلى واقع ملموس ترصده تحقيقات صحفية ومقالات رأي كثيرة. بالفعل، ارتفعت بين الشباب معدلات طلب الهجرة إلى الجار الشمالي الذي تدير سياسته حكومة تقدمية ونشرت صحف جادة (كالنيويورك تايمز والواشنطن بوست) تقارير عن أميركيين من أصول عربية وإسلامية يتدافعون لطلب الارتحال شمالاً. والتقطت الخيط مقالات رأي راوحت بين التعبير عن تفهم البحث عن "بديل آمن" من قِبل مواطنين يخشون التحول إلى ضحايا، وتسجيل أهمية مقاومة ترامب وسياساته بفاعلية والتخلص من الشعور بالعجز والخوف الذي تلبَّس من لم يصوت له. ثم التقطت الخيط أيضاً بعض الصحف الأوروبية التي نشرت بضعة تقارير عن طلاب وفنانين وموسيقيين أميركيين يعملون في أوروبا ويعتزمون الاستقرار بها للابتعاد عن أميركا ترامب وعن سياساته الرجعية والعنصرية. هل كان لعقلي إزاء مثل تلك النقاشات أن يتوقف دون استدعاء نقاشاتنا المصرية عن المعدلات المتصاعدة لارتحال الأقباط في 2012 و2013؛ خوفاً من النزوع غير الديمقراطي لرئيس منتخب انتمى إلى اليمين الديني؟ هل كان له أن يمتنع عن تذكُّر "تغريبة" مصريات ومصريين كثر بسبب القمع والتعقب وانتهاكات الحقوق والحريات في أعقاب صيف 2013 وبحثهم الدائم عن ملاذات آمنة بعيداً عن السلطوية الجديدة؟ بالقطع لا. فالأصل واحد. نقلاً عن "الشروق" المصرية.