الاستعمارُ -وما أدراك ما هو!- هو سجلٌّ صفحاتُه مظلمة حتى العتمة، إذا تصفّحتَ هذا السجل، فالموت والقهر والعذاب والدمار أبرز سِماته، هذا هو سجلّ الاستعمار بالجزائر وفي غيرها من دول العالم الثالث التي ذاقت ويلاته، لكن حين ينجلي هذا الاحتلال لا يبقى مِن ذكرى غير جرائمه المميزة بماركة جرائم دون عقاب ولا رقابَ وجراحها المفتوحة التي أبت الالتئام. الآلاف من الجرائم ارتكبها الاستعمار الفرنسي طيلة عقُودِه في احتلال الجزائر التي طالت 13 عقداً وسنتين ضد الجزائريين العزّل، والآلاف منها لم تلقَ إنصاف المؤرخين والحقوقيين والناشطين والساهرين على هذه الذاكرة الثورية. مجزرة ساقية سيدي يوسف الرهيبةُ، من تلك المجازر التي تنتظر هي الأخرى إنصافاً جزائياً من طرف القانون الدولي، وقبل ذلك اعترافاً فرنسيّاً عن هذه المجزرة ومثيلاتها، لعلّ وعسى يلتئم الجرح الجزائري-التونسي المشترك. تقع بلدية ساقية سيدي يوسف على الحدود الجزائرية-التونسية ما بين بلدة لحدادة الجزائرية ومدينة الكاف التونسية. هذا الموقع جعلها منطقة استراتيجية لجيش التحرير الوطني لاستخدامها كقاعدة للعلاج واستقبال الجرحى والمعطوبين من صفوفه، ما جعل فرنسا -كما سنتطرق لاحقاً- إلى معاقبة أهلها عقاباً جماعياً كما دأبت فعله كلما سنحت الفرصة. قبل المجزرة: سبقت المجزرة استفزازات فرنسية للمنطقة؛ لكونها قاعدة علاجية لجيش التحرير الوطني ومنطقة دعم مادي وعسكري، فبعد إصدار وزير الدفاع الفرنسي آنذاك قانون ملاحقة مجاهدي جيش التحرير داخل التراب التونسي، كانت أوّل ضربة تتلقاها البلدة بتاريخ 1 سبتمبر/أيلول 1957، تبعتها ضربات أخرى بعد 4 أشهر. فبعد خسارة جيش الاحتلال طائرة عسكرية بعد إسقاطها من طرف الثوار الجزائريين، قرر شن غارات جوية على الساقية؛ قصد ترويع أهلها ومعاقبة التونسيين على دعمهم للثورة الجزائرية. يوم المجزرة: السبت 8 فبراير/شباط 1958م الموافق 18 شعبان سنة 1377هـ، كان من عادة البلدة أن يكون يوم السبت هو ميعاد السوق الأسبوعية، وموعداً لتسليم الهلال الأحمر التونسي والصليب الأحمر الدولي المساعدات للاجئين الجزائريين، كان حضور الجزائريين كبيراً ذلك اليوم في البلدة... تلك الشواهد وضعها المستعمر جيداً في اختياره يوم المجزرة. الساعة الـ11 صباحاً، المدينة كانت يعمها الهدوء وتسكنها الراحة، وتملأها ضحكات اللاجئين الجزائريين وأصوات الباعة التونسيين، إلى أن تغير كل شيء في لحظة؛ 10 أسراب من الطائرات القاذفة والمطارِدة الفرنسية تعكر سماء البلدة الجميلة، بدأ القصف من دار المندوبية وسط المدينة، ثمّ المدرسة الابتدائية التي لجأ إليها نصف سكان البلدة، ليتم بعدها قصف جميع المباني الحكومية وتدمير منازل المواطنين ومتاجرهم، لتكمل الطائرات المطارِدة المجزرة بملاحقتها وقتلها الشنيع من استطاع الهرب من البلدة، ولم تَسلم حتى قافلة الصليب الأحمر ولا مفوضه الذي كان حاضراً لحظة المجزرة من همجية وانتقام الفرنسيين، فكانت الحصيلة مقتل العشرات من اللاجئين الجزائريين وأشقائهم التونسيين وتدمير البلدة وتخريبها كليّاً. ردود الفعل بعد المجزرة: أصدرت جبهة التحرير الوطني بياناً أعربت فيه عن تضامنها مع الشعب التونسي واستعدادها لوضع يدها مع القوات التونسية لصد أي اختراق آخر للمحتل الفرنسي، كما طالبت المجتمع الدولي بإدانة فرنسا على استهدافها عزلاً بدعوى أنّها مراكز عسكرية لجيش التحرير، كما دعت تونس سفراء كل من أميركا، ومصر، وليبيا، والعراق وملحقات السفارات البريطانية والإسبانية، كما قام الرئيس التونسي الراحل بورقيبة بطرد السفير الفرنسي من بلاده وقيام تونس برفع شكوى لمجلس الأمن، هذه الشكوى تُوجّت بإدانة دولية لفرنسا على المجزرة، لكن دون عقاب، عقاب أصدره التونسيون أنفسهم بعدما زادت هذه المجزرة من فرص تدويل القضية الجزائرية أكثر. بعد 59 سنة من المجزرة: يعيش سكان بلدة ساقية سيدي يوسف اليوم الذكرى، وكل حجر وشجر يكاد ينطق ليروي للعالم ما كان يجري ذلك اليوم، في وقت يحاول فيه الأشقاء التونسيون والجزائريون تذكير بعضهما بعضاً وتذكير العالم أجمع، وبصوت يأبى الخفقان، بأن دمهم سال هنا في الساقية كدم واحد، والجرح ما زال مفتوحاً يا فرنسا! ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.