الأرجح أنّ مروحة واسعة من الأسئلة حول مستقبل الاقتصاد الرقمي ومساراته وتطوّراته وتحدّياته، كانت المحور الأساسي في مداولات «القمّة العالمية للإنترنت» Internet International Summit التي عُقدت أخيراً في مدينة «غانغ» الصينيّة. وشارك في القمة التي أبدت اهتماماً لافتاً في شأن أمن الفضاء السيبراني («سايبر سيكوريتي» Cyber Security) قرابة 5 آلاف مهتم بالشأن المعلوماتي ومختصّيه، ضمّت صفوفهم مئات من ممثلي كبريات شركات المعلوماتيّة والاتصالات المتطوّرة. وبديهي القول إنّ الإعلام الصيني أدرج تلك القمة ضمن المشروع الهائل الذي تنهض به بكين حاضراً، ويشار إليه بمصطلحي «طريق الحرير الجديد» و «حزام واحد، طريق واحد» One Belt, One Road، إذ تعتبر الصين أنّ شرانق الألياف الضوئيّة للإنترنت التي تشرنق الكرة الأرضيّة، يجب أن تتكامل مع الطرق الأخرى في الاتصال والمواصلات كسكك الحديد والمرافئ البحرية والجويّة، وشبكات الأوتوسترادات البريّة وغيرها. رعاية الصحّة عن بُعد استهلّت القمة بكلمة الرئيس الصيني شي جين بينغ الذي لفت إلى ضرورة بذل مزيد من الجهود لتطوير البنية التحتيّة لتكنولوجيا المعلومات، ودعم اندماج الإنترنت والاقتصاد. ودعا إلى إيجاد مقاربة فعّالة لضمان اندغام الصناعات التقليديّة مع التكنولوجيا الذكيّة، ملاحظاً أن تلك المعطيات تعطي دفعاً نوعيّاً للاقتصاد الرقمي كما ترسم آفاقه المستقبليّة. وتحت عنوان «الإنترنت والرعاية الصحيّة الذكيّة: تحسين الصحة العامة»، قدَّم عدد من شركات الإنترنت تطبيقات رقميّة جديدة، يشمل عملها استعمال تحليلات إحصائيّة في تحديد جرعات الأدوية للمريض بدقة، وإجراء عمليات جراحيّة دقيقة بواسطة الروبوت، ونشر شبكات معلومات متكاملة للخدمات الصحيّة، إضافة إلى استخدام تقنيات رقميّة في الفحص الفوري للمريض وإرسال البيانات إلى مراكز مختّصة بصورة فوريّة. وركّز أحد منتديات القمّة على موضوع «الإنترنت والابتكار والتطبيق في اللوجستيّات: تعزيز التحوّل الاقتصادي وتطوّره». وجمع ممثلين للحكومة الصينيّة وحكومات أخرى من جهة، وعلماء مخضرمين وممثلي مؤسسات دوليّة من الجهة الثانية. وتبادل الجميع أفكاراً عن السياسات والنماذج الابتكاريّة والإنجازات العلميّة والتكنولوجيّة، إضافة إلى خبراتهم المتراكمة في إدارة مركّب تقني بات مستجدّاً ويشار إليه بمعادلة الـ «إنترنت + لوجستيّات» Internet+ Logistics . غموض يكتف سيّارة - الروبوت في سياق متّصل، غصّ المعرض التقني المصاحب لـ «القمّة العالميّة للإنترنت» بسيول من المنتجات الجذّابة. وشملت الأجيال الجديدة من الهواتف الذكيّة والمنازل الذكيّة، فيما بدت الأجيال الشابة أكثر انجذاباً إلى السيّارات الذاتيّة القيادة («سيّارات الروبوت»). وإذ تعِدُ بإحداث تحوّل نوعي في معنى السفر والمواصلات، فإنّها تثير أيضاً أسئلة عميقة حول علاقة الأفراد والمجتمعات بالمواصلات الميكانيكيّة المستقرة منذ ما يزيد على قرن. كيف يتعامل الجمهور الواسع مع سيّارات يقودها روبوت؟ ما هو نموذج العمل الذي ينبثق آنذاك؟ هل يسير مصنعو السيّارات على خطى منتجي محركّات الطائرات النفّاثة في شركتي «رولز رويس» و «برات أند ويتني»، بمعنى الاعتماد في البيع على المسافة المقطوعة في السفر مع تسجيل نمط عمل كل محرك مباع؟ هل يستخدم أصحاب السيّارات نموذج شركة «أوبر» لتأجير سيّاراتهم، بدلاً من تركها في مرأب؟ هل يُحدث الانتقال إلى أسلوب العمل المؤتمت ثورة في النقل الريفي، فيمنح الفقراء والشباب والمسنّين والمعوقين فرصاً لممارسة الحق في الانتقال والسفر بكلفة منخفضة؟ في المقابل، هناك احتمال أن يجد مصنعو السيّارات أنّ المعلومات التي يقومون بجمعها عبر تعقّب أسلوب حياة عملائهم، ربما تكون لها قيمة أعلى من قيمة المركبات الخاصة بهم! وكذلك يحتاج المجتمع العلمي خصوصاً، بل المجتمع بعمومه، إلى تناول تلك الأسئلة بصورة جديّة تماماً. وربما برزت حاجة لاتخاذ قرار موحّد في شأن تحديد أنماط العلاقات المستقبليّة مع المركبات الذاتيّة القيادة، وإلا فالأرجح أن تترسم الأنماط على يد شركات تكون راغبة في مجرد الكسب من ذلك التطوّر التكنولوجي. وعلى رغم تعقيد الأسئلة المطروحة، فثمة من يرى أنّه يمكن تكثيفها في سؤال يتيم: هل يتعيّن على السيّارات الذاتيّة القيادة أن تحتوي مقوداً يكون مهيّئاً لتدخل يد البشر وعقولهم، فتكون لها الكلمة الفصل بدل الروبوت؟ وتعمل مجموعة من شركات صناعة السيّارات ومكوّناتها، على توليد نموذج عمل ملائم في شأن المركبات الذاتيّة القيادة التي تكون مزوّدة بمقود. ومن الواضح أنّها لا تزال حريصة على تقديم المساعدة إلى السائق، ما يعني وجود حاجة ملحّة إلى البحث في نواحٍ تقنيّة وعلميّة واجتماعيّة شتى. في المقابل، ماذا يكون ردّ فعل السائقين عندما تطلب منهم السيارة- الروبوت تولي القيادة؟ كيف يمكن لعملية نقل التحكّم أن تجري بسلام، بمعنى عدم حدوث تضارب في القرار بين طرفين أحدهما روبوت والآخر من بني البشر؟ "حزام واحد وطريق واحد"...رقمياً أيضاً تداولت «القمّة العالميّة للإنترنت» طويلاً في شعار «التشبيك يعزّز التواصل» Connection supports Communication. وجرى الاشتغال عليه في جلسات خلصت إلى أنه يساعد في بناء تحالف حول التنمية، وتكثيف التواصل والتعاون، وتعزيز التشبيك المعلوماتي الذي يتضمّن أيضاً جسوراً للتبادل التجاري والتواصل الثقافي. وساهم في ذلك النقاش الحسّاس مسؤولون رفيعو المستوى من الصين وخارجها، إضافة إلى مستثمرين، ومؤسّسات بحثيّة، ومنظمات دوليّة. وركزت القمّة أيضاً على قضايا التنمية في الاقتصاد الرقمي، والتواصل الشبكي، وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات، وخدمات الإنترنت وتطبيقاتها، في ظلّ مشاركة فعّالة من فرنسا وإيطاليا ومصر وألمانيا ومجموعة كبيرة من الدول الأفريقيّة. وكذلك ناقش المشاركون نماذج متقدّمة عن تطوّر اللوجستيّات الحديثة في عصر الإنترنت، تتصل بتعزيز الصناعة والبحث العلمي، وتقوية التعاون بين الخبراء والمؤسسات على المستويّات الوطنيّة والدوليّة. وفي القمّة أيضاً، ركّزت جلسات عدّة على الأنماط العالميّة في عصر الإنترنت، ومساهمة المؤسّسات الفكريّة في تطوير الشبكة العنكبوتيّة. وشارك فيها باحثون بارزون، وممثلون عن مؤسّسات فكريّة ومنظمات دوليّة، إضافة إلى قامات أكاديميّة مرموقة من آسيا وأوروبا وأفريقيا والأميركتين. وتشارك الأطراف نتائج بحوث علميّة عن تعزيز التطوّر في عوالم الإنترنت. كذلك ناقش المشاركون تأثير تطوّر الشبكة العنكبوتيّة في المجتمع البشري ككل، ودور المؤسّسات الفكريّة في تجديد معايير الفضاء الرقمي. وارتأوا أنّ تحسين التواصل بين المؤسّسات الفكريّة عالميّاً يساهم في خدمة أهداف التنمية المستدامة، وبناء فضاء رقمي سلمي وآمن ومفتوح ومتعاون. وشاركت «مكتبة الإسكندريّة» في النقاش بوصفها ممثلاً للمنطقة العربيّة. اتفاق فوزهين والمحكمة الذكيّة خُصّص منتدى مستقل في القمة لبحث شعار «تعاون دولي في مواجهة الإرهاب الإلكتروني». وشدّد على أنّ حماية البيانات تمثّل وسيلة محوريّة، لكنها ليست غاية في حد ذاتها، إذ لا تجري حماية البيانات لمجرد وقايتها من ضرر ربما يحيق بها، بل بهدف حماية حقوق الأفراد ومصالحهم من عمليات تستهدف استخدام بياناتهم في إلحاق الضرر بهم. وربما تصلح تلك الملاحظة نفسها منطلقاً للعثور على حلول لمعضلة حماية الحريّة الشخصيّة في العوالم الافتراضيّة التي تعاني تآكل الخصوصيّة فيها بصورة متصاعدة. واستطراداً، تشكّل مكافحة الاستخدامات المؤذية للبيانات الشخصيّة مدخلاً لدرء خطورة تسرّب تلك البيانات وتداولها بطرق سيئة. وجرت الإشارة أيضاً إلى ضرورة ملاحظة الأخطار الماليّة الأساسيّة الناجمة عن تآكل الأمن المعلوماتي، التي تعرّف بأنها الأضرار التي يمكن التعويض عنها في شكل ما أو آخر. وفي المقابل، هنالك أخطار اجتماعيّة تؤثّر في العلاقات بين الأفراد، على نحو لا يمكن تعويضه بالأموال وحدها، إذ تتضمّن عمليات التشهير بالأفراد عبر سرقة صور حميمة، أو شنّ حملات ضد الآراء الشخصيّة، مع ملاحظة أن ما هو شخصي يفقد خصوصيّته في تلك الحال. وتصعب معالجة ذلك النوع من الأخطار بالتشريعات وحدها. غياب التقاضي الأرجح أن الأفراد لا يقدمون عادةً على التقاضي نظراً الى تشابكات اجتماعيّة وقانونيّة متنوّعة. وعلى رغم ذلك، تستطيع تشريعات مناسبة في شأن مكافحة التمييز أنّ تقلل الأخطار الاجتماعيّة. وفي تلك الحال، تعتبر التشريعات بمثابة رسائل رسميّة تعبّر عن رفض التمييز. وكذلك تساهم في خلق تأثير عميق في أوجه شتى من الحياة اليوميّة التي تتعذّر السيطرة عليها كليّاً بواسطة القوانين والتشريعات. وفي سياق متّصل، استضافت «القمة العالميّة للإنترنت» مسؤولين رفيعي المستوى من المحاكم العليا في دول عدة، وممثلين عن «برنامج الأمم المتحدة الإنمائي». وتداولوا في موضوعات شملت دور تكنولوجيا المعلومات في تطوير عمل المحاكم، والاتجاه الرقمي في إدارتها. واعتبروا أنّ تلك المعطيات هي عنصر مساعد في تحقيق العدالة الناجزة، ودعم دور المحاكم في فضاءات الإنترنت التي تسودها حال عولمة في المعلومات. اعتمد المنتدى «اتفاقية فوزهين عن منتدى سيادة القانون في الفضاء الإلكتروني: المحكمة الذكيّة». وترسي الاتفاقيّة حجر أساس في التعاون الدولي مستقبلاً، في شأن اعتماد تكنولوجيا المعلومات في المحاكم وأجهزة الدولة في الفضاء الإلكتروني. وتوصّل المشاركون إلى أطر جديدة في عمل تلك المحاكم، خصوصاً ما يتّصل بتسجيل الوثائق، وسرعة استدعاء القضاة، وطلب بيانات شخصيّة، وتبادل الأحكام، وبناء قواعد البيانات الخاصة بها وغيرها.