لا يكاد تاريخ الإنسان في هذه الأرض يخلو من ذكر مظاهر تسلط «الذكور» على «الإناث» بصورة من صور التسلط المستشري، الذي لا يعدم بالطبع استثناءات تكون المعادلة فيها معكوسة بتسلط الأنثى على الرجل. وقد عرفت الشعوب العربية تسلط الذكور على الإناث بتفاوت في ذلك بين الغلظة المفرطة، وحدود الأذى والإيلام. ولما جاء الإسلام كانت الأحكام بين الذكور والإناث قائمة على ميزان العدل ومعرفة الحقوق وفق آية محكمة كريمة، بما يحفظ العلاقة بينهما ــ على المستوى النظري ــ في أبهى صورة تستشرفها الإنسانية وتتطلع إليها. غير أن هذه الصورة المشرقة تبدو في بعض الأحيان مهزوزة ليس في أصلها، ولكن في فهم البعض لها، إذ يعود التسلط على المرأة من سياقه الاجتماعي القديم بكل حمولات العادات والتقليد، إلى الواقع وقد أضاف إليه بعدا دينيا بالفهم المغلوط أو التأويل الفاسد للآيات بما يحكم قبضة «الذكور على الإناث»، ولعل أبرز ما يكون ذلك واضحا وجليا في تعامل أغلب المسلمين اليوم مع الآية الكريمة (الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم). فهذه الآية تتحول في أذهان عديد من «الذكور» إلى «صك» تسلط يبرزه في وجه «حريمه» لينال بغيته من قهرهن وإدخالهن إلى «حظيرة» طاعته، وتتقبل «الإناث» ذلك ــ في الغالب ــ من باب قداسة النص القرآني، والخوف من الخوض في الأمور الدينية، خشية أن ينتهي الأمر بهن إلى التفسيق والتجهيل والخروج عن الدين. هذه الصورة لا تكاد التفاسير التي تناولت هذه الآية تزيل عنها ما ران بها من خلط بين مفهومها القرآني والعادات والتقاليد، فكل التفاسير تقضي بتفضيل الرجال على النساء، وهي أفضلية تحصرها في كون الله عز وجل جعل من الرجال الأنبياء والخلفاء والسلاطين والحكام والغزاة، وزيادة التعصيب والنصيب في الميراث، وجعل الطلاق بأيديهم، والانتساب إليهم وغير ذلك من مزايا يرونها، حيث يقول ابن كثير في تفسيره: (الرجال قَوامون على النساء) أي: الرجل قيم على المرأة، أي هو رئيسها وكبيرها والحاكم عليها ومؤدبها إذا اعوجت. أما الشوكاني فيقول: (والمراد: أنهم يقومون بالذب عنهن، كما يقوم الحكام والأمراء بالذب عن الرعية، وهم أيضا يقومون بما يحتجن إليه من النفقة، والكسوة، والمسكن، وجاء بصيغة المبالغة قوله: {قوامون} ليدل على أصالتهم في هذا الأمر). ويفسرها السعدي بقوله:( خبر الله تعالى أن {الرجال قوامون على النساء} أي: قوامون عليهن بإلزامهن بحقوق الله تعالى، من المحافظة على فرائضه، وكفهن عن المفاسد، والرجال عليهم أن يلزموهم بذلك، وقوامون عليهن أيضا، بالإنفاق عليهن، والكسوة، والمسكن). وعن ابن عباس: {الرجال قوامون على النساء}: يعني: أمراء: عليها أن تطيعه فيما أمرها به من طاعته، وطاعته أن تكون محسنة لأهله، حافظة لماله، وكذا قال مقاتل والسدي والضحاك.. وقال الشعبي: (الرجال قَوامون على النساء) قال: «الصداق الذي أعطاها..». هذه التفاسير المختلفة التي تلتقي جميعها في «أفضلية» متفاوتة للرجل على المرأة، من حيث تركيبه الفسيولوجي، وسلوكه تجاهها، من قيام بحقها على المستوي الفطري المأمول. غير أن ما يدهشني حقا أن جميع المفسرين لم يقدموا لنا وصفا لهذا «الرجل» الذي منحت له «القوامة» تفضيلا على المرأة. فمن غير الخافي أن كثيرا من الناس يقعون في خلط كبير بين «الذكورة» بوصفها مقياس تحديد لنوع، وبين «الرجولة» بوصفها مسبار تحديد لسلوكيات وخصال حميدة، وقد حرصت في مفتتح المقال على إيراد مفردة «الذكور» في مقابل «الإناث»، وليس «الرجل» في مقابل «المرأة»، بظني أن الذكورة ليست بأي حال من الأحوال دالة على «الرجولة»، وعلى هذا كان يجب بداية على العلماء والمفسرين أن يشيروا إلى الضوابط والمرجحات التي ترفع «الذكر» من الوصف المحدد لنوعه فقط، ليبلغ الرجولة في كمال صفاتها، لتتحقق له مزية «القوامة» على المرأة، ولهذا فليس كل «الذكور» قوامين على النساء، ولكن بالضرورة الحتمية أن كل الرجال قوامون على النساء بنص الآية الكريمة، وهي ليست قوامة تسلط، وما ينبغي لها أن تكون، كما هو شائع ومشاهد، فمن يتصف بصفات «الرجولة» الكاملة لن يذهب مطلقا باتجاه التسلط أو قهر المرأة، وإليكم الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة الواصفة لـ «الرجال» وليس «الذكور»، اقرؤوا قول الله عز وجل: (من الْمؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه). وقال تعالى: (رجال لا تلهِيهِم تجارة ولا بيع عن ذكر الله). وقوله تعالى: {أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم ولتتقوا ولعلكم ترحمون}. وقوله تعالى: {وقَال الذين كفروا هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق جديد}. وغيرها كثير يمكن الرجوع إليها لبيان الأمر على وجهه الصحيح.. فعلينا أن نزيل هذا المفهوم الخاطئ الذي يلحق كل الذكور بمقام «الرجولة»، ويتأسس عليه قيام كل «ذكورنا» برفع «سوط» القوامة على النساء بمفهوم التقاليد والعادات وليس بمفهوم الدين على الإطلاق، فلو أرادوا «القوامة» بحق الدين، عليهم أولا أن يحققوا شروط «الرجولة» بذات الدين، فالراجح عندي أن حق القوامة ــ في الزمن الحاضر ــ محصور في زمرة قليلة، بل وقليلة جدا وعندي أدلة وشواهد.