كثيرًا ما نربط بين الإرهاب والتداعيات الاقتصادية، وكأن كل الانعكاسات اقتصادية فقط، في حين أن تأمل خريطة التداعيات ينتهي بنا إلى مجموعة من الاستنتاجات التي تفند هذه القراءة وتقوم بتنسيب هيمنتها على التفكير. إن البحث عن التداعيات الأخرى لا يُقلل طبعًا من ثقل التداعيات الاقتصادية التي تهجم علينا مباشرة بعد كل حادثة إرهابية، حيث تترجم الأزمة سريعًا إلى أرقام تؤكد الأثر السلبي المباشر السريع. غير أن التداعيات الأخرى تعلن عن نفسها ببطء، نسبيًا، وتعترض سبيلنا بقوة الشيء الذي يجعلنا نضعها بالبنط العريض تحت بند تداعيات الإرهاب المسكوت عنها، أو التي نقلل من شأنها رغم أهميتها. للإرهاب تداعيات ثقافية خطيرة جدًا؛ إذ يعمل على نقيض الانفتاح والتقارب بين الثقافات والشعوب. وهو ما يعاش بشكل معمق وواضح في المهرجانات والمظاهرات الدولية الكبرى في عالمنا العربي: النجوم الكبار العالميون من الأوساط الأوروبية والغربية بشكل عام يخاف كثير منهم الدخول في مغامرة الذهاب إلى بلداننا والصعود على مسارحنا. يخافون من الإرهاب ومن الإرهابيين، الأمر الذي يجعلهم يعتذرون، فيعلن البعض منهم عن خوفه صراحة والبعض الآخر يتعلل برزنامة مكتظة رغم أن رزنامته تفند ذلك. بيت القصيد: لا شك في أن هذا الخوف مشروع باعتبار أن دور الفنان والمبدع عمومًا أن يغني ويعزف ويسعد الجمهور ويسافر به إلى عوالم الدهشة والجمال، لا أن يُقتل ويموت غدرًا. ولكن في نفس الوقت يبدو لي أنه من واجب الفنان أن يكون شجاعًا؛ لأنه بالفن نحارب الإرهاب، وأي استسلام وخوف من الإرهابيين هو هزيمة لقيم الجمال والانفتاح والأنسنة والتقارب بين الأنا والآخر؛ ذلك أن ظاهرة عزوف بعض النجوم العالميين عن المشاركة في مهرجاناتنا هو نجاح حقيقي للمشروع الإرهابي الذي يعمل على قطع التواصل الثقافي الفني بيننا والآخر، إضافة إلى أنه ينطوي على ضعف الثقة في مؤسساتنا وفي مدى قدرة دولنا على حماية الضيوف وتوفير الأمن اللازم للتظاهرات والمشاركين فيها. من جهة ثانية، يبدو لي أن ذكاء الفنان يظهر في هذه الامتحانات، حيث إن مشاركته ستكون أكثر قيمة وظهورًا مقارنة بمشاركته في اللحظات العادية المستقرة الآمنة جدًا، فهو يثبت رسالته كفنان في دعم فكرة الفن كمصدر للتواصل بين الشعوب، ودعم قيم الحياة والتعدد، ويرفع من نجوميته ويضفي عليها طابعًا ملتزمًا. إن دور الفنان، خاصة عندما يبلغ العالمية ويصبح قيمة ثابتة، هو أن يكون صاحب رؤية ثقافية وموقف، وإذا تملص كل نجم من مسؤوليته فإنّه تدريجيًا سينغلق العالم على نفسه ويستبد الخوف بالجميع وتسقط جسور التواصل. وهو وضع حسب اعتقادنا ضد مصلحة الجميع، وعلى رأس القائمة النجوم الكبار أنفسهم؛ لأنهم يتحركون ضمن كل الجغرافيا وطموحهم كل الجماهير. إذن لا مناص من الشجاعة في هذه اللحظة الدولية العصيبة، التي ندعي جميعًا أن معالجتها لا تكون إلا بالثقافة والفن، وذلك من منطلق أن الإرهاب ينطوي على مشروع مغلق ثقافيًا، ولا صوت فيه إلا للموت والإقصاء وللصوت الواحد في كل شيء. صحيح أنه في فترة ما حصل نوع من البرود فيما يسمى الفن الملتزم، وأصبح يصنف بالفن الجاد، وقد طغى في الستينات والسبعينات وحتى الثمانينات، وقليلة هي التجارب التي أنصفت الفن الملتزم، حيث إن الغالب على المنتج الملتزم البعد السياسي والمباشراتية في التعاطي مع الموضوعات. ولكن يبدو لنا أن اللحظة الثقافية العالمية الراهنة بصدد إعادة إنتاج أهمية فكرة متجددة لا تعني مدلول الفن الملتزم وفق المعايير المعروفة، بل نحن أمام فكرة أكثر تحديدًا ودقة تشمل الفنان الملتزم بدوره دون أن ينسحب ذلك على مضمون فنه. وأظن أن وظيفة الفنان هي نقدية وثورية بالأساس: نقد الواقع ورفض كل ما يهدد رسالة الفن والإنسانية والإنسان، بلفت النظر عن انتمائه الثقافي والعقائدي والعرقي. كما أن الدول الغربية من واجبها أن تنخرط فعليًا في مشروع محاربة الإرهاب بالفن والثقافة، وأن تشجع الفنانين على المشاركة مع المطالبة بحمايتهم؛ ذلك أن ما ينطبق على المواطن العادي من تحذير من السفر إلى المناطق الموصوفة بالحمراء، من الصعب سحبه على الفنانين الكبار الذين يخضعون لضمانات أمنية خاصة. أظن أن الاتحاد الأوروبي كمؤسسة كبرى يمكن أن يؤدي دورًا كبيرًا في هذا المضمار، وأن يُقحم النجوم الكبار كجنود ضد الإرهاب كما تفعل المنظمات الأممية عندما ترشح أسماء سفراء للسلام. لو يفكر كل نجم كبير بطريقة براغماتية ومبدئية في مسألة الإرهاب، سيستنتج أن حضوره في بؤر التوتر أكثر وظيفية بالنسبة إليه كفنان، وأن دور الفن في المحن مضاعف مقارنة بوقت الاستقرار والسلام.