حتى الآن يمكن ملاحظة خطين يكادان يكونان متعارضين لدى المتابعين، سياسيين وكتابًا، في استقبال «تباشير» سياسة الإدارة الأميركية الجديدة، وتوقع ما سوف تقوم به من أفعال لمواجهة الوضع المعقد في الشرق الأوسط، أحدهما متفائل، والآخر متشائم. نتجت تلك القراءة المتعاكسة جراء غموض لا يخفى في تصريحات الإدارة الجديدة وتوجهاتها، وخاصة تصريحات الرئيس دونالد ترمب، سيد البيت الأبيض الجديد. وإذا استثنينا الملف الفلسطيني الإسرائيلي، الذي يرى كثيرون أنه لا جديد جذريًا حوله، يبقى الأمر الآخر، وهو محور إيران، العراق سوريا، وإلى حد أقل لبنان اليمن من جهة، ودول الخليج من جهة أخرى، وهو ملف معقد ومتشابك يحتاج إلى بصيرة. إلا أنه من الواضح أن أولويات الرئيس ترمب بدأت بمنع مواطني عدد من الدول الدخول إلى الولايات المتحدة، ويمكن تفسير تلك الأولوية بأنها استجابة لرأي عام ليس قليلاً (لحماية الداخل الأميركي من أعمال الإرهاب)، ولكن رد الفعل الذي تم تجاه تلك الخطوة زاد من انقسام المجتمع الأميركي، أكثر مما كان إبان فترة الانتخابات، ويأتي هذا الانقسام لسببين؛ الأول مبدئي، إذ تنظر إليه مجموعات كبيرة من الشعب الأميركي على أنه يخالف المبادئ الأميركية الدستورية وضرورات عملية، حيث اعتمدت في تاريخها على المهاجرين والهجرة، والسبب الثاني هو خوف بعض الأقليات أن يطالها ذلك العزل في وقت لاحق، إن تركت الأمور دون مقاومة مدنية فاعلة. الأهم في الأمر أن ما اعتقد الرئيس ترمب أنه سوف يقود إلى توحيد الشعب الأميركي زاد في تقسيمه! كما دخل في ملف آخر، وهو السير على أفعال الرئيس السابق باراك أوباما في الشأن الداخلي بممسحة وإلغاء! في الوقت نفسه بدأ ترمب بالنظر إلى الملفات الأخرى الخارجية، من علاقة أميركا بحلف الأطلسي، إلى محاربة الإرهاب في الشرق الأوسط، إلى الحديث عن النزاع في بحر الصين! يرى البعض أن الإدارة الجديدة ترغب في فتح الملفات جميعها، وتسخين الساحة تمهيدًا لتناول تلك الملفات بعد ذلك، كل على حدة. قد يكون ذلك صحيحًا، إنما في السياسة فتح جميع الملفات مرة واحدة يعني «خلط أوراقها» حتى لا يتبين أي ورقة تنتمي لأي ملف. الثابت حتى الآن العلاقة بروسيا الاتحادية، التي جاء الحديث عنها كونها طرفًا في ملفات أخرى، وليس ملفًا قائمًا بذاته، ستظهر الأيام والأسابيع القليلة القادمة على أي نحو سوف تتناول الإدارة الجديدة ذلك الملف. ما يعني أهل المنطقة هو الملف الأكثر سخونة، وهو الحروب الدائرة في المنطقة والدماء المتدفقة في كل من العراق وسوريا واليمن، والدور الإيراني في كل ذلك وما يقدمه الاتحاد الروسي من إسناد! الملفات الثلاثة، العراقية والسورية واليمنية، ودور إيران فيها، تحتاج الإدارة الجديدة لأن تضع أوليات لها. الإعلان أن الإدارة الجديدة ضد التوسع الإيراني هو خطوة دبلوماسية، ولكن ما هي الأدوات التي يمكن أن تستخدمها الإدارة للحد من ذلك التوسع ولإدارة الصراع المقبل؟ في الموضوع العراقي والإرهاب الداعشي، تقوم الولايات المتحدة بالتعاون مع قوى عالمية كثيرة بالتصدي لتلك الظاهرة الخطيرة عسكريًا، ولا يبدو أن هناك حديثًا علنيًا حول واقع العراق السياسي بعد هزيمة «داعش»، والواقع العراقي معقد، فالعراق يعاني منذ ظهوره كدولة من «أزمة هوية عميقة»، ولم تستطع الكيانات المختلفة التي حكمت العراق منذ الملكية وحتى «الثورية» تقديم حلول ناجعة لصهر «الهويات المختلفة والمتضادة» من عرقية وطائفية ومناطقية وعشائرية، في كيان دولة حديثة أو قريبة إلى الحداثة، حتى في داخل الجماعة الواحدة العراقية هناك تقسيمات، فالكرد هُم «بهادان» في الجنوب و«سوران» في الشمال!، وكرد الشمال منقسمون على أنفسهم، وكذلك الشيعة، ولاءات مختلفة، ولا يخرج السنة عن ذلك! غياب الهوية الجامعة يجعل كلاً من تلك الفئات تشعر بالغبن، إن تسيدت أخرى، لذلك فإن التدخل الخارجي في شؤون العراق يصبح ممكنًا، بل قد يطلبه مكون عراقي ضد آخرين، وهذا ما يحدث اليوم في العراق، فهناك فئات عراقية تستند وتستعين بالدولة الإيرانية وتخضع لشروطها، فبناء الدولة العراقية المدنية العادلة والموحدة، يحتاج إلى سنوات من العمل وإرادة ليست عراقية فقط، بل ومن دول قوية وفاعلة، وهو غير متوفر الآن! هنا يأتي في المكان الأول العامل الإيراني والعامل التركي، اللذان يتوجب التعامل معهما لوضع العراق على الأقل بعيدًا عن السقوط في محيط الدولة الفاشلة التي هي بالضرورة حاضنة للإرهاب! إلا أن ذلك التعاون ليس متاحًا في المدى المنظور! في الساحة السورية تعمل كل من روسيا الاتحادية وإيران على خلخلة ما بقي من الدولة السورية، وعلى الرغم من وجود أغلبية سنية متماسكة نوعيًا في المكونات السورية، فإن هناك أكرادًا وعلويين وآخرين، وقد حول التدخل الإيراني أولاً والتدخل الروسي ثانيًا الصراع في سوريا من صراع بين مطالبة مشروعة بالحريات والمشاركة في مقابل الاستبداد والقمع، إلى حرب طائفية ذات مرجعية مذهبية! مما يصعب إيجاد الحلول القريبة أو الممكنة، مما أطلق يد النظام في تحويل سوريا إلى «مسالخ بشرية»، كما عرف العالم عن معتقل صيدنايا أخيرًا، وتضج الشبكة العالمية اليوم بمعلومات عن تلك المجازر، التي شارك في تسهيل القيام بها النظام الإيراني، واستهدفت مكونًا شعبيًا يمثل الأغلبية. إيران من جانب آخر يبدو أن بعض دوائرها قد قرأت التحول في واشنطن بشكل صحيح، فهي كانت ترفض في سنوات طويلة ماضية أن تتحدث إلى دول الخليج بشكل جماعي، إلا أنها رضيت أخيرًا بذلك، بل تصريحات بعض مسؤوليها تستعجل ذلك الحوار الآن، إلا أنه من جانب آخر لم يفتأ عدد آخر من المسؤولين الإيرانيين في التصعيد من جديد، ضد دول الخليج ودول أخرى، ومع استمرار سياسة القمع والاستبداد في سوريا والتسيُد في العراق، وجلب ميليشيات ارتزاقية من لبنان والعراق وباكستان وأفغانستان وتمويلها وتجهيزها بالعتاد لقتل الشعب السوري يبدو حديثها عن الحوار للاستهلاك الإعلامي لا غير، وهي استراتيجية إيرانية قديمة (الحديث بصوتين). الخيار المتاح للإدارة الأميركية الجديدة تجاه إيران ليس استخدام القوة، ذلك خيار لو طرح على الساحة سيأتي بكوارث لا يعلمها إلا الله، إلا أن هناك خيارًا آخر ممكنًا، هو هزيمة كاملة لأتباع إيران في اليمن، تلك الساحة القابلة لدحر النفوذ الإيراني فيها، لعدد من الأسباب اللوجيستية والشعبية، فهي لا ترتبط بإيران جغرافيًا (كما في العراق ومنه إلى سوريا)، كما أن به شعبًا يرفض الوصاية تاريخيًا، وعدد من الظروف الأخرى المساعدة. هزيمة إيران في اليمن تهيئ لهزيمة أخرى في سوريا وتقليص نفوذها في العراق من خلال التفاعل مع المكونات الرافضة لتلك الهيمنة. غرفة العمليات الجديدة في واشنطن أمامها عدد من الملفات الخطيرة والزمن ليس في صالحها، فبمجرد شعور قوى إقليمية أن كل التصريحات الحادة تجاه تلك الملفات لا تعدو أن تكون «كلامًا»، سوف تتغير الأحداث على الأرض بشكل أكثر سوداوية ودموية، وقد يقود إلى فوضى تؤدي إلى أن تفكك أوطان في هذه المنطقة الحيوية! آخر الكلام: يحاول الجهلة والمستفيدون السياسيون أن يُستخدم الإسلام، مع الأسف، كقوة فصل لا قوة جمع كما هو في الأساس في المجتمعات المُسلمة!