قلْ: أعُدُّك شاعراً مبدعاً ، وقل: أعتبرك شاعراً مبدعاً. أنت ترتكب، خطأ وخطيئة، بنظر المتشددين، عندما تستعمل لفظاً أو أسلوباً جديداً موَلَّداً أو مُحْدَثا؛ فالفعل: اعتبرَ، في المعجم القديم، يدل على الاختبار والامتحان: اعتبر الشيءَ أي اختبره وامتحنه. وعلى الاتعاظ: اعتبرتُ من مصيره: أخذت العِبرة منه، فاتعظتُ: « فاعتبروا يا أولي الألباب. فاعتبروا يا أولي الأبصار». هناك كتاب شهير للأمير الشاعر صائد الأسود أسامة بن منقذ، اسمه الاعتبار وهو عن ذكرياته في قتال «الإفرنج» زمن الحروب الصليبية، دون أن يموت شهيداً؛ وقد سمّى الكتاب: الاعتبار لاستخلاص العِبْرة منها؛ فقد قال : «إن ركوب أخطار الحروب لا ينقص الأجل المكتوب...». إلا أن مجهولاً من الشعراء أو الكُتاب... استعمل الفعل اعتبر بمعنى عدَّ، حسبَ، فشاع الفعل وذاع على الألسنة والأقلام. وهيهات أن يقف في وجهه توصية أو قرار من أي مجمع لغوي عربي، حتى لو كان تحت «الفصل السابع»!. لذلك خضع أرباب المجامع ثم المعاجم لهذا الفعل المتمرد، و»اعتبروه» من ألفاظ العربية الحديثة. لكنهم وصموه بأنه «مُوَلَّد» وتعريفه عندهم بأنه اللفظ الذي استعمله «الناس قديماً» بعد عصر الرواية. ما أجمل هذا التوليد من هؤلاء «الناس»! إنهم مبتكرون، مجددون، مطوِّرون مبدعون، موّلِّدون لأحفاد جُدد، من أجداد قدماء ! في السنة الرابعة من دراستي الجامعية، وكنت، بكل تواضع، الأول في كل سنة دراسية، كلّفني أستاذ النحو الدكتور محمد خير الحلواني رحمه الله، وهو في غاية الصرامة والنبوغ النحوي، بإلقاء محاضرة على الطلاب بأداة الكاف في المقرر علينا وهو: مغني اللبيب لابن هشام الأنصاري. كانت محاضرة ناجحة بشهادته التي لا تعرف المحاباة. فأثنى عليها وعلى ملقيها، قائلاً: هكذا فليكن الدرس النحوي. استغرقت المحاضرة ساعة ونصف الساعة. وقد عقّبَ عليها ذاكراً بعض الهنات في لغتي؛ مثل قولي: «ابن هشام يعتبر الكاف هنا زائدة ...» فقال: علينا استخدام الفعل يعدُّ وليس يعتبر... وعلَّل ذلك. فلم أقتنع برأيه. ثم كلّفني بكتابة بحث لغوي عن ابن جني في كتابه العظيم: الخصائص. ولم يكن في مكتبتي، فأعارني نسخته الشخصية. فوجدت ضالتي؛ إذ كان يعلق بخط يده على ما يقرأ، ومن ذلك : (ابن جني «يعتبر» هذه الظاهرة الخ...)! فلما ناقشته في القضية قال: هذه التعليقات كتبتها عندما كنت طالباً في الجامعة! ثم صدر قرار من مجمع اللغة العربية بدمشق باعتماد الفعل اعتبر مرادفاً للفعل حسب، وعدَّ، ونُشر في مجلته. وكان- رحمه الله- قد سجّل لي في مجلة المجمع اشتراكاً مجانياً، فحملتها إليه لمناقشته، فبادرني قائلاً: قرأت العدد. اعتبرْ الفعل «شرعياً»! فلماذا يحرّمون علينا ما يحللونه لأنفسهم: في اللغة، والنحو، والدين، والسياسة، والحياة... ماذا «تعتبرون» هذا الموقف ؟ «... فاعتبروا يا أولي الألباب»! وإلى قول آخر. * شاعر وناقد سوري