خمسة دروس في الحياة علَّمتني إياها "نهلة النمر" ترددت كثيراً في عنوان مقالي هل أكتب "علمتني نهلة اليتيمة" أم أكتب "نهلة النمر"؟! فكلمة "يتيمة" كلمة رنانة تخطف القلوب والأنظار، وتضمن عدداً جيداً من القراء، ولكن أنا لا أراها "نهلة اليتيمة"، أنا أراها "نهلة النمر"، وبالرغم من أن اليتم سيأخذ حيزاً ليس بهين في مقالي، فإنني أفضل أن أراها نهلة الإنسانة دون وضعها في أطر اجتماعية ونفسية تحد من رؤيتي لملكاتها المتعددة، وتحرمني من رؤية ما هو أبعد من اليتم. 1- الإنسان قادر على أن يغير نفسه للأفضل بعد 3 سنوات من انضمام نهلة إلى فريق العمل الذي أرأسه في جمعية وطنية، شعرت أنه يوجد شيء في صدري أود الإفصاح عنه فقط لنهلة، فبعد 3 سنوات من التعامل مع نهلة ومعرفتها عن قرب شعرت أنه آن الأوان أن أخبرها أني رأيتها قبل هذه الـ 3 سنوات بأكثر من 11 سنة! رأيتها إنساناً غير الإنسان الذي عرفته خلال العمل، رأيتها لدى زيارتي لبيت الأيتام الذي كنت أتردد عليه بانتظام وأنا في الجامعة، رأيتها منكسرة يشلها يأسها حتى إنه أطبق على فمها، رأيتها ضائعة وحائرة في عالم آخر، حتى إنها انفصلت عن عالمنا، جمعنا حوار لم يدم إلا لحظات قصيرة محدود الكلمات، ولكن كان من الصعب نسيان تلك النظرة بعينيها ونبرة صوتها. لم أكن أعلم وقتها أن نهلة هي ابنة هذا البيت، وأنها نشأت فيه وعاشت طفولتها، وأنها ليست مجرد مشرفة أو إخصائية في البيت كما ظننت وقتها. السبب الذي شجعني على أن أشارك نهلة هذا الأمر، والذي كنت أخشى أن يزعجها، فأحياناً لا يحب المرء أن يراه الغير في أوقات يأسه، أو أن يتعامل مع من يذكره بهذه الأوقات، لكني شعرت أني أريد أن أهنئها وأعبر لها عن احترامي. فأعتقد أن لو العالم أجمع أكد لي أن نهلة التي رأيتها في ذاك الوقت ستنتصر يوماً على يأسها لتحوله إلى كتلة من الأمل والعزيمة وستتغير لتصبح على ما هي فيه الآن، ما كنت صدقت العالم، وما كنت استطعت أن أكذب عيني، لكن يشاء الله أن يريني جهلي وقصر نظري وظلمي؛ لأني حكمت بالظاهر، فمن أنا لأحكم؟ ومن أنا لأقرر؟! خلال عملي تكوَّن لدي فهم أعمق لحياة الطفل اليتيم في دور الرعاية وتعلمت من نهلة أموراً لن أجدها في أبحاث أو رسائل الماجستير والدكتوراه، ولا في قصص الأدباء عن تفاصيل من المستحيل رؤيتها أو فهمها من خلال تطوعي والزيارات الأسبوعية للأطفال الأيتام. هذا الفهم جعلني أدرك أمرين؛ الأول أن بالرغم من زياراتي المتكررة لبيت نهلة لم ألحظها وحتى عندما لاحظتها لم أحاول مساعدتها، وإنما غضبت منها؛ لأنها لم تكن تنتبه بعناية للأطفال الذين كنت أزورهم، بالرغم من أنها كانت أكثر حاجة للمساعدة من الأطفال. وثانيهما، لم أسأل نهلة عن نقطة التحول التي بدلت حالها، ولم أكن مهتمة؛ لأني موقنة أنه بغض النظر عن الأسباب والسيناريوهات، فنقطة التحول تبدأ فقط عندما يقرر المرء أن يغير ما بنفسه أولاً. الآن فقط أدركت معنى الآية الكريمة: "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم". نهلة الآن هي مقيمة بدور أيتام، فهي تساعد دور الأيتام على معرفة مستوى أدائها بالنسبة لمعايير جودة الرعاية البديلة، كما أنها مستشار لجنة التحكيم في جائزة أفضل المؤسسات الإيوائية (جائزة بيت الحلم)، وأخيراً والأهم، نهلة تساعد الأطفال والشباب الأيتام وتشجعهم على رؤية أفضل ما فيهم من خلال تخطي شماعة اليتم والظروف والأخذ بالأسباب لا معاتبة القدر. 2- سر أغلى وأرقى ماركات العالم لو أنك من المهووسين بفكرة الماركات التجارية وتشعر أنها تكسبك قيمة اجتماعية أو أي قيمة، فقد تغير رأيك لدى تعرفك بنهلة النمر! فلدى نهلة مقدرة على اكساب كل ما ترتديه جمالاً وأناقةً أبهى وأغلى من تلك التي تأتي مع الماركات العالمية. نهلة جعلت تصالحها مع نفسها ورضا النفس خير دليل على أن الإنسان هو مَن يكسب الأشياء قيمة ومعنى وروحاً وليس العكس. فلو كنت تبحث عن طلة مميزة وشكل أنيق مميز، لا تبحث عن الماركات، ابحث عنك أنت بداخلك وتأكد أنك متصالح مع نفسك، ابحث عن السلام بداخلك. لن أنسى كلمات نهلة عندما قالت إن أجمل ما أضافه عملها في جمعية وطنية لها هو أنها أدركت أن "اليتم ميزة مش عيب". 3- الحاجة أُم التعلم عندما سافرنا معاً أنا ونهلة لدبي لتسلّم جائزة بالنيابة عن مؤسستنا، كنت أشعر أن نهلة "أمانة في رقبتي"، ولأني عشت حوالي 19 سنة في الإمارات فكنت أشعر أنني بالتأكيد سأكون أكثر دراية منها، ولذلك شعرت بهذه المسؤولية تجاهها. وكالعادة، دائماً يجعلني جهلي أضحوكة أمام نفسي، فلدى وجودنا في دبي لاحظت أن نهلة تفوقني في كل شيء، وأنها هي من يجب أن تكون مسؤولة عني وليس العكس. فلو ذهبنا لأي مكان، نهلة كانت لديها القدرة على حفظ المكان بسرعة غريبة، عكسي أنا التي كنت غالباً ما أتوه وأحاول بصوت عالٍ أن أحفظ بعض العلامات لكي لا أضل طريقي. كنا إذا دخلنا محلاً أجد أنني "لايصة" ولا أعرف كيف أشتري، ونهلة خلال وقت قصير جداً تنتقي وبلا مبالغة أفضل ما في المكان. نعم "الحاجة أُم التعلم"، نهلة اكتسبت مهارات حياتية؛ لأنها استقلَّت بحياتها منذ الصغر وكان عليها ألا تعتمد على أي شخص سوى نهلة، عكسي أنا فمهاراتي الحياتية أقل من نهلة؛ لأني كنت أعتمد على غيري، فأنا دائماً برفقة أحد من أسرتي ومستوى الاستقلالية والاعتماد على النفس يختلف كثيراً عن مستوى استقلالية نهلة. لا يعني هذا أن حالها أفضل من حالي، أو أن حالي أفضل من حالها، وإنما يعني ألا أستسلم لجهلي وألا أتسرع في الحكم على الأمور وألا تأخذني الجلالة وأظن يوماً أو لحظة أني قد أكون أكثر علماً أو أكثر خبرة. فليس المقياس هنا الكثرة أو الترف أو الراحة، فكثير من الأحيان يكون الحرمان هو أكبر دافع للتعلم وليس العكس. 4- العفو عند المقدرة العفو من أصعب المشاعر، فأنا أرى العفو كجهاد النفس، وخاصة أن تعفو عمن آذاك، سواء كان أذى نفسياً أو بدنياً، وسواء كان عن قصد أو عن غير قصد. العفو من شيم النبلاء الأقوياء الحكماء الذين اختاروا أن تتعدى رؤيتهم لأكبر من "الذات" من "الأنا". أولئك القادرون على العفو هم من يسمون بروحهم وينقونها أولاً بأول؛ لأنهم يعلمون أن "الغضب" و"الشحناء" لا يؤذيان سوى حاملهما. كانت إحدى مربيات نهلة تعاقبها، وطبعاً الثقافة العربية تجاه التربية لا تخلو من الضرب، وكانت نهلة بالرغم من تفوقها الدراسي تفاجأ أن عليها أن تنجز الكثير من الأعمال المنزلية خلال إجازة المدرسة، التي كانت تنتظرها بشوق لتتمكن من قراءة الكتب التي تحبها، وكان هذا الأمر يزعجها كثيراً كما أنه كان غير مبرر. كنت أظن، ولجهلي كالعادة، أن نهلة غاضبة، وأنها لا تحب هذه المربية، حتى تفاجأت بأن نهلة ما زالت تتواصل معها إلى الآن؛ بل وتكن لها كل الحب والاحترام. سألتها وكلي تعجب: كيف؟ قالت بمنتهى السلاسة والصراحة: كانت تضربني وهي تظن أن هذه هي التربية فهي لم تقصد إيذائي وإنما على العكس كانت تريد مصلحتي. أما عن الأعمال المنزلية فعندما كبرت فهمت أنها كانت تخشى أن تفوقي في المدرسة يغنيني أو يلهيني عن إتقان الأعمال المنزلية، وكانت ترى "إن البنت مالهاش غير الجواز"، فكانت حريصة على أن تشد عليَّ في هذا الأمر. 5- فاقد الشيء يعطيه كنا في ورشة عصف ذهني لإعادة تصميم وتطوير برنامج لبناء قدرات وتنمية مهارات الشباب الأيتام، وكل من كان بالورشة كان هدفه تقديم الأفضل للشباب الأيتام، ولكن لأن معنى "الأفضل" نسبي بعض الشيء ويختلف مفهومه من شخص لآخر، كان كل من في الورشة وأنا منهم يريد أن يقدم كل شيء للشباب الأيتام، معتقدين أن هذا هو الأفضل، إلى أن قررت نهلة النمر وبمنتهى الهدوء والحكمة أن تحسم الأمر وتصحح مسار تفكيرنا عندما قالت: "لو عايزين تساعدوا الأيتام يبقى ما ينفعش تقدموا لهم كل حاجة على طبق من فضة". القيمة والمعنى في هذه الكلمات لم يكن بالأمر الجديد، فهذا ما أتبعه في تربية أولادي، فهكذا رباني والدي، نسعى لتقديم ما هو أفضل لأولادنا، ولكن يجب عليهم أن يبذلوا شيئاً للحصول على الأفضل مثل الالتزام، والرغبة، والمثابرة، والمبادرة. ولكن حقيقة ما استوقفني في هذا المبدأ وجعله أكثر عمقاً وقيمة أنه جاء على لسان نهلة، فهي لم تنتهز الثقة التي اكتسبتها بين زملائها وكون صوتها أصبح مسموعاً وله ثقل بينناً، ولم تنتهز حسن نوايانا واندفاع عاطفتنا، وإنما أرادت فعلاً الأفضل لذويها وأرادت أن نفكر فيهم ونعاملهم كما نعامل أبناءنا وأولادنا. لو أننا حريصون على حل أي من القضايا الاجتماعية فلا بد من تمكين أصحاب القضية بالعلم والمعرفة، وجعلهم مسؤولين في وضع حلول لقضاياهم، فهم الأقدر على ذلك، فالاعتماد على الخبرة الحياتية وحدها لا يكفي، وكذلك الاعتماد على العلم والأبحاث والدراسات وحده أيضا لا يكفي.