في عالم ليس منا ببعيد، ومن زمن عاشه منا الكثر، كان إذا ذُكر بعض الأشياء اهتز لها الوجدان، واجتمع الناس على قُبحها، فكانت حاسة تذوق الأشياء رائقة، وكانت حاسة الاستحسان وإنكار الخبيث نبيلة، فكان الرجل رجلاً والمرأة امرأةً، وكانت القيم تعلو! ما لا أستطيع استيعابه في السنوات الأخيرة هو ما أصاب مجتمعاتنا من تبلُّد في الشعور، وقصور في الإحساس، وانتكاسة في الفطرة، فلا تكاد تجد للأشياء لذَّة ولا للأيام معنى، وأصبح التجرؤ والتطاول على الثوابت والقيم السمة الأبرز، فقد غابت عن سمائنا معاني النبل والشهامة، والقيم الطيبة، وحسن الخلق. وهكذا ضاعت الفطرة، ضاعت كما ضاع الكثير من طيات الجمال الداخلي للنفس الذي أوجده الله بداخلنا، وهكذا حرفت وتفسخ لونها. ولو كنا بلا فطرة طيبة لكان الحال أفضل مما هو عليه الآن، فضياع الشيء أشد وطأة من عدم وجوده بالأساس! الفطرة التي هي هبة الله للإنسان، والتي لا علاقة لها بدينه، أو انتمائه أو ثقافته، فالكل يولد بها، هي فقط غريزة إنسانية وضعها الله بداخل الإنسان؛ ليميز بين الحق والباطل دون أن يستفتي أحداً أو يسأل أو يذهب إلى الكثير من الأقوال، أو يجوب بين الصراعات والخلافات، هي تلك الحاسة التي أوجدها الله لتشعر وتتذوق الجمال، هي التي تجعلك تفرق بين الطيب والخبيث، هي البعيدة عن الخبث، وهي التي لا تعرف النفاق. تبدأ هذه الفطرة السليمة في رحلتها إلى التشويه والضياع، فإذا شرع الوالدان في تربية صغيرهما بدآ في تشويه تلك الفطرة تدريجياً؛ حيث عدم التسامح والنفاق، بدعوى أن هذه هي القوانين التي تحكم العالم، وأنه لو لم يصبح هكذا لصار ضعيفاً منتهك الكرامة..هذه أول نقرة في شرف الفطرة! وتظل الأيام تتعاقب على هذا الإنسان المسكين وعلى فطرته التي تحوَّلت من سليمة إلى نصف سليمة إلى ضائعة! البيت والمدرسة والشارع والأصدقاء والإعلام، كل هؤلاء يمسكون بأقلامهم السوداء ليكتبوا على صفحة الفطرة البيضاء، ومن أعظم مدمرات ومهلكات الفطر السليمة كثرة رؤية الباطل والظلم واستحسانه، وعدم التصدي له وعلاجه، فالطفل إذا شاهد تلك الانتكاسات الفكرية ورأى من والديه استحساناً لها، بدأ في أول منعطفات التشوه الفطري؛ ليصبح التنازل أكبر فيما بعد، خطوة تلو الأخرى تجده قد أصيب بالتشوه الفطري! إن المعاناة التي نعيشها الآن ما هي إلا وليدة فطرة مشوهة، فلا تتعجب اليوم من تأييد البعض للكيان الصهيوني، ومن دعم البعض الآخر للظلم الواقع في كثير من البلاد العربية، ولا تندهش كثيراً إذا رأيت قضايا أخلاقية تثار على ساحة العامة، ويخرج البعض بآراء بالطبع قد شذَّت عن الفطرة، ولا تندهش كثيراً من استماتة البعض في الدفاع عن الباطل، ولا تندهش كثيراً من جنون الطعن في العرض والذمة الذي انتشر في خلايا المجتمع، ولا تندهش من أي خبث قد استشرى، ولا تسأل كثيراً عن الأسباب، فبالطبع وراء كل هذا العبث فطرة قد دُمرت، دمرت بفعل فاعل ولا شك! لو أراد الله أن يخلقنا سُدى لفعل، ولو أراد للعبث أن يعلو لأمَر، لكنه حَبَا الإنسان بالعقل وأعطى له الفكر ليترك الإنسان يختار، وأعطى أيضاً هذا الإنسان فطرة سليمة، فطرة تعينه على التمييز وتساعده على الخروج من تناحر الفتوى الدينية الشاذة تارة، ومن خبث الأفكار تارة أخرى، فطرة تساعده على اختيار الصواب حتى في أموره الشخصية والاجتماعية، وخطورة الأمر تكمن في ضياع حاسة التمييز، وفساد الذوق العام! ما أؤمن به أن في جمال النفس يكون كُل شيء جميلاً، ولو تأملت في الطفل وفطرته لشعرت بهذا، فكم تمنينا أن نعود صغاراً، وكم تمنينا أن نهرب من ضجيج تلك الحياة.. وكم تمنينا أن نعود للفطرة السليمة! لذلك أروع ما قد يقوم به المرء في عالمنا أن يُطلق العنان لروحه، وأن يتحدى هوّس التصنيف وإطلاق الأحكام وجنون الطعن في العرض والذمة. لن أخوض كثيراً في الكلام عن آثار ضياع الفطرة السليمة وانتكاستها كثيراً؛ لأنه ملموس بالطبع في تلك الحياة الصعبة التي نعيشها، فالكل يرى ويسمع ويشعر بما نحن فيه، والكل يتعجَّب ويشتكي. لذلك أبدأ في الحديث عن علاج تلك المشكلة: اهتموا بأولادكم.. ربّوهم.. أحِبوهم.. قوموا باحتوائهم. التربية هي أهم خطوة في العلاج المجتمعي البحت، فالمنحنى يزيد في الانحدار جيلاً بعد جيل، وهذه البلوى ليس لها من دون الله كاشفة؛ لذلك يجب علينا الوقوف للخفض من حدة هذا الانحدار، والسعي بجد وإخلاص إلى إصلاح الأجيال القادمة. الأطفال هم الأمل.. لا تتركوا الصدفة تربي، والشارع يعلم، والإعلام يؤصل، حافظوا على نظافة عقول أولادكم وسلامة فطرتهم وضمائرهم، كما تحافظون على نظافة أجسامهم وملابسهم. أما من تشوَّهت فطرتهم، فلن أتحدث كثيراً عن نصائح؛ لأنني في الحقيقة أحتاج إلى النصيحة، فالأمر يتعلق أكثر بالقرار الداخلي الذي يجب أن تأخذه أنت مع نفسك، ومدى رضاك عن نفسك، بعزم قوي ورغبة صادقة في التحسين من نفسك، اجتهد في المحافظة على ما تبقَّى داخلك من جمال. لا أريد أن أعيد الكلام، ولكن رسالتي هذه المرة هي: انتبهوا إلى الفطرة، انتبهوا إلى فطرة أولادكم، فالمنحنى لا ينقصه انحدار. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.