أتعامل مع ديوان «تفاحة لا تفهم شيئاً» للشاعر المصري جرجس شكري (الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة)، على أساس أني أمام حساسية حديثة في الشعر. والحداثة تعني هنا قبل كل شيء طريقة مبتكرة في إدارة الكلمات على أساس لغوي وإيقاعي جديد، مع ما يستتبع ذلك من حفريات المعنى والصورة، ما يشكل نواة أسلوبية حديثة. هذا، وإن، كان ينأى بنا قليلاً عن احتدام الجدل على سنّ قصيدة النثر (في مصر بوجه خاص)، لكنه يقودنا بالضرورة إلى الإمساك، بتقاطع جوهري بين مختلف الأساليب الشعرية وهو أنّه لا مفرّ من الإيقاع. أعني أن الشعر ليس سوى بث روح الموسيقى في الجسد النثري للكلمات. في تلك الكتلة المصمتة والشاحبة والشاسعة على امتداد بحر طام ومحايد من الكلمات، وهي في حاجة إلى تنظيم لتغدو أغنية مهد أو صرخة في واد أو بياناً ملصقاً على باب محكمة أو شتائم في السوق أو مقالاً في كتاب علم أو فلسفة أو... قصيدة. فالأصل الواحد لكل ما ذكرنا لا يبرر ضياع النسب الذي تتجه إليه افتراضات أخيرة في النص المفتوح. ولو افترضنا أنّ القصيدة ركيزة مشتركة بين كل أساليب قولها، لقلنا إنها بث الروح الشعرية في كتلة اللغة. بمعنى بثّ الإيقاع في الجسد النثري. لا يمكن لمقال علمي أو لنص فلسفي، أو لجريدة مثلاً أن تنطوي على هذه الروح الشعرية التي إن اقتربت من قصة قصيرة أو رواية أو مسرحية أو فيلم سينمائي، قلنا إن فيه «روحاً شعرية». ولعلّه ليس لدينا سوى «الإيقاع «- المعطى الموسيقي- التنسيق الهارموني ... من معطى للدلالة على هذه الروح، وهي على كل حال غامضة ومتجددة. وهذا الذي كان هو «الوزن» في الماضي والذي عدّه الجاحظ مسألة تمس حكمة العرب وخلودهم، تبين أنه أعقد وأكثر تنوعاً من الوزن (وهو نمطي رتيب ومحدود)، وأنه قادر على أن ينداح ويتعدد ويكون روح كائنات الوجود بكاملها، من البحر إلى المرأة والشجرة... وأنه إذا دخل في اللغة حوّل نثرها إلى شعر، ما أمسكت به عصور الحداثة ابتداءً من القرن التاسع عشر حتى أن بودلير، قال «كن شاعراً حتى في النثر». كيف تكتب قصيدة؟ يستشعر جرجس شكري هذه المسألة الجدالية في القصيدة الأولى من ديوانه، وهي بعنوان «الطريقة المثلى لكتابة الشعر»، إذ إنه يبث في الكلمات المحايدة ما يمنحها حياة فتظهر كأنها كائنات حية بروح وإحساس، تحب وتكره، لها مزاج ولها أمراض. فيقول: «لها أفواه وآذان/ بعضها مغشوش أو مستعمل/ وربما انتهت صلاحيته/ الكلمات تسهر في الشوارع/ تمرض وتنام على الأرصفة/ البعض يغتصبها وتدوسها الأحذية/ أيضاً تكره الدولة وتحب الموسيقى». اللافت أن هذا المعنى حوّل الكلمات الى كائنات حية، وهو معنى قديم. منذ «في البدء كان الكلمة»، وصولاً الى قول ابن عربي إن «الحروف أمم». ما الجديد إذاً؟ نسأل ونجيب: الجديد هو في الإيقاع. أي في تنسيق الكلمات وفي هندستها، وبث هذا التوتر في جسدها المتأتي بين الجمع والتفريق والمناورة. ولا يلبث الشاعر في القصيدة عينها أن ينزل الكلمات إلى أصولها، وهي أصول شتى، وليست سعيدة دائماً. «لنا الخوف/ أمراض الشتاء والصيف»، «شرطة ورئيس/ ... لدينا نساء وحبال غسيل وكلمات تموت من الضحك». هذه الأصول غير السعيدة للكلمات والقاسية أحياناً مثل «يذبح الأطباء مرضاهم»، قادرة أيضاً على أن تقدم مفارقات ضاحكة عبر توليد إيقاع جديد من جمع مفردتين: «مرضى ولصوص»، «نساء وحبال غسيل»، «يسبحون ويدخنون»... في القسم الثالث من القصيدة، تنتهي الكلمات إلى ضرورة أن يكون لها حلم، بحيث يتم صنع «دولة» (بالكلمات): «أحلم أنني أخبز دولة/ وأمنحها للمساكين»، وحيث لا تغادرنا المفارقة الساخرة «صنع دولة بحجم كعكة. يأكلها الشعب وهو يرقص حتى رأسها». في هذه القصيدة تم «تحديث» الصيغة الشعرية لفكرة الكلمات. وإطلاق سراحها في توازنات وصور واسترسالات غير مضبوطة بوزن، وإنما بإيقاع سردي. وبقيت لها الصورة والمفارقة، وبالامكان تسميتها قصيدة من نثر الكلمات. حساسية شعرية نسأل هنا، كيف وممّ تتكون الحساسية الشعرية لجرجس شكري؟ يبدو أن الشاعر صنعها بدأب منذ إصداره الأول «بلا مقابل أسقط أسفل حذائي» (1996) حتى الإصدار الرابع «الأيدي عطلة رسمية» (2004). ومن عنوان الديوان الراهن «تفاحة لا تفهم شيئاً»، يطلّ برأسه عنوان شوقي أبي شقرا المعروف «حيرتي تفاحة جالسة على الطاولة» (1983). فكلا العنوانين واقعي وسريالي. ولعلّ هذا هو سبيل إدخال النثر في الشعر، لأنه «في النثر تستطيع التقاط الفتات والتفاصيل والذرات وتلتقط أيضاً الكومبارس»، كما يقول أبي شقرا في مقابلة له في مجلة «نزوى» (نيسان - ابريل 2002). وإذا كانت سخرية أبي شقرا رعوية سحرية بلدية وتمت بصلة للجبل في لبنان، فإن سخرية جرجس شكري لا تبتعد كثيراً عن منابع مسيحية، وهو ما يظهر ذلك في قصيدته الثانية في الديوان «وهذا رأسي»: «فجئت واثقاً مدفوع الثمن/ أدين بحياتي لقديسين ومشعوذين»... والفنتازيا الساخرة هنا ليست مجانية، بل نقدية: «الأحد يوم الرب/ استراحة السماسرة/ ويوم مولدي». وإذ هو يتكلم على سيرة حياته، فإنه لا يتردد في أن يهب أعضاءه بالمجان لمن يرغب. ويمزج الماضي والحاضر والمستقبل باستعارات ساخرة ممضة «سأضع المستقبل في الثلاجة/ إلى جوار الطماطم/ وألقي بالماضي في المرحاض/ ولن أنسى أن أترك المياه مفتوحة/ أياماً وأياماً» ... لكنه يستفيد من المعنى الذي كتبه وديع سعادة في عنوانه «ليس للمساء أخوة»، ليقول في آخر القصيدة «كان إله يعلم المساء طريق العودة إلى إخوته/ فخرج عليه اللصوص في صورة ملوك ورؤساء/ ذبحوه وحرموا الجنون» ... ثمة شيء ما لبناني (من ناحية قصيدة النثر) في شعر جرجس شكري. ولعلني ألاحظ أن لديه حداثة شعرية ذات أصل «إنجيلي»، ولكنها ليست دينية أو طهرانية، بل ذات معنى مضاد تكشف عن الوجه الآخر للمسيح. أكاد أقول ذات معنى انتقامي. ويضاف الى ذلك تلك السريالية الغرائبية التي تعتمد مزج المعنى المفارق بالصورة الصادمة، ليتولد من ذلك إيقاع هو إيقاع مشهدي يثير الدهشة: «حمل رأسه إلى بلاد بعيدة/ لا يدفن الناس فيها موتاهم/ يحفظونهم في الهواء/ وإذا أمطرت/ ترفع كل جثة مظلتها/ وتحرس روحها بنفسها». الملاحظة الأخيرة في ما بدأنا به هذه الكتابة حول الحساسية الحديثة هي أن جرجس شكري، حين يداور المعنى أو حين يراوغ فيه، فإن ذلك يقوده إلى كتابة حائرة، وشعر ينطوي على التباساته. الحداثة غالباً ما تنطوي على كتابة حائرة، فيها غموض والتباس وتشتيت لبؤرة القصد.