النسخة: الورقية - سعودي بعد أكثر من خمسة قرون قررت إسبانيا منح حق الحصول على الجنسية الإسبانية لأحفاد اليهود الذين طُرد أجدادهم منها عام 1492، لرفضهم اعتناق الكاثوليكية. إذ قامت الحكومة الإسبانية الأسبوع الماضي بالمصادقة على مشروع قانون قدمه الحزب الشعبي الحاكم، الذي اقترح تعديل التشريعات السابقة التي سمحت بمنح مواطنة لليهود (السفارديم) الذين اختاروا التقدم بطلب للحصول على جنسية، فأصبح بإمكانهم الحصول على الجنسية الإسبانية. في الوقت نفسه أقصى القرار أحفاد الموريسكيين الذين يفوق عددهم 20 مليون شخص، وتقطن غالبيتهم المغرب. وقال وزير العدل الإسباني غاياردون: «إن المجتمع الإسباني يُصلح بهذا الإجراء واحداً من أكثر الأخطاء التاريخية، في إشارة إلى طرد اليهود من إسبانيا». وأردف: «إن التعديل الجديد للتشريع خوَّل للسفارديميين الحصول على الجنسية الإسبانية، ويسّر من متطلبات الحصول عليها، وكل ما عليهم إثبات الانتساب إلى شبه الجزيرة الآيبيرية من خلال اللغة والثقافة والألقاب». على رغم أن قرار الطرد كان يشمل اليهود والمسلمين، على حد سواء، فهم مروا في المأساة والمعاناة والتشرد والتهجير القسري نفسه، إلا أن الحكومة الإسبانية خصت بهذا القانون اليهود فقط، وهو ما اعتبرته بعض المنظمات الحقوقية تمييزاً بين ضحايا الطرد. كما لوحظ غياب منظمات قوية بالمغرب وبقية الدول العربية التي استقبلت الموريسكيين بعد طردهم من بلاد الأندلس، تدافع عن حقهم في الانتماء إلى وطنهم الأصل إسبانيا. تخصيص الحكومة الإسبانية منح يهود السفارديم الجنسية الإسبانية أمر يدعو إلى الاستغراب. فأولاء اليهود الذين كانوا قد تعرضوا للطرد من الأندلس لم يكن عددهم يتجاوز بضعة آلاف. وتقدم الكثير منهم إلى السلطان العثماني، آنذاك، سعياً للحصول على إذن لهم بالهجرة إلى تركيا، وبالفعل استقر قسم منهم في أزمير. وكان من بينهم جدّ سباتاي سيفي الذي وُلد عام 1035 من أبوين يهوديين ومن أصل إسباني. وهو الذي ينتسب إليه يهود الدونمة. وكلمة «دونمة» تعني الرجوع أو الارتداد. أي أن الكثير من السفارديم أسلموا، ومن بقي على دينه منهم قلة لا تذكر، يعيشون في المغرب. في المقابل فإن المورسكيين الذين هُجِّروا قسراً وأناخوا مطيهم عام 1609 في دول شمال أفريقية كانت نسبتهم آنذاك تنوف على 5 في المئة من أصل عدد سكان إسبانيا، أي في حدود نصف مليون مسلم. السؤال الذي يجدر أن يثار: أيهما كان له تأثير أبرز في تاريخ إسبانيا الحضاري والثقافي والاجتماعي والعلمي.. اليهود أم المسلمون؟ لقد ترك العرب المسلمون في إسبانيا حضارة لا تضاهيها حضارة على مر الأعصر والدهور. بل إنه قبل عقود أصدرت الحكومات الإسبانية السابقة تشريعات وقوانين تؤكد ضرورة الحفاظ على الآثار الإسلامية في أرضها، هوية لها، تميزها عن بقية الدول الأوروبية. فقصْر الحمراء الذي يدخله كل عام ما لا يقل عن 40 مليون سائح، هو ضمن قائمة أقدم وأعرق تراث حضاري إنساني في العالم. وما زالت نافورة الأسود وقاعة الاستقبال معجزتين علميتين في دقة صنعهما إلى هذا الوقت. كما أن أسماء الكثير من المدن والشوارع والمباني لا تزال تحمل أسماء عربية محضة، مثل: مدينة الزهراء MADINA ALZZAHRA، والجامع AL JAMA، والقصرAL CAZAR. وينتصب تمثال عبدالرحمن الثالث شامخاً في مداخل بعض المدن الساحلية الإسبانية. ومتحف الشمع في مدريد يحوي الكثير من تماثيل أمراء وحكام الأندلس المسلمين، بل إن عباءة أبي عبدالله الصغير، آخر ملوك الأندلس، وسيف علي العطار بطل معركة لوشة لا يزالان محفوظين في متحف مدريد الحربي. قال الكاتب الإسباني المشهور بورغوس يوماً في صحيفةAL MUNDO: «ترك العرب المسلمون آثاراً عظيمة هي اليوم رموز إسبانيا، مثل: مئذنة الخيرالدا ومسجد الزهراء وقصر الحمراء. هي اليوم أمثلة للتسامح والتعايش». إن التواصل الحضاري بين إسبانيا وبلاد العرب المسلمين بدأ قبل أكثر من 1200 عام، ولم ينقطع إلى وقتنا الحاضر. وكُتب التاريخ تعجّ بأسماء الرحّالة العرب الأندلسيين إلى الجزيرة العربية ومصر وبلاد الشام، والرحلات العلمية والثقافية التي قام بها الأندلسيون، على رغم بعد المسافة، وهو ما يصعب معه إحصاؤها. يمكن الجزم بأن أي حضارة على مر العصور لم تثمر كما أثمرت الحضارة الإسلامية في إسبانيا. ولا يزال تأثير هذه الحضارة في المشرق الإسلامي في جميع مناحي الحياة الدينية والثقافية والعلوم التجريبية إلى يومنا هذا. والتاريخ يشهد على إنجازات هؤلاء الأندلسيين، أمثال: ابن رشد وابن البيطار وأبي علي القالي وابن الفرضي وابن رشيق وابن حمديس والقاضي عياض وابن خانقان وابن البسام وابن الأبار والمقري وابن عربي وابن درّاج ولسان الدين بن الخطيب وابن آجروم وأبي حيان وابن عبدربه وابن سيده وابن حزم وابن هانئ وابن زيدون وابن عباد وابن زهر والخشني وقاسم بن أصبغ وعيسى بن دينار ويحيى الليثي وأبي الوليد الباجي وقاسم بن سيار وابن الرومية وزرياب وعبد الملك بن حبيب وابن طفيل وابن سعيد الأندلسي والرعيني وابن جزي وابن فرج القرطبي وسحنون والسهيلي وابن سيد الناس والرازي والأزدي الحميدي والبكري والشريف الإدريسي وأبي القاسم المجريطي والزهرواي ويحيى بن بقي. النقطة الثالثة التي يجدر الوقوف عندها أيضاً، هي أن إسبانيا تبنت قبل أعوام عدة قضية حوار الحضارات، وأقامت المؤتمرات العالمية للحوار بين مختلف أتباع الرسالات الإلهية والثقافات. مثلما تبنت التسامح الديني والتعايش المشترك تجاه الإسلام وأهله، ما لم يتوافر في أي دولة في العالم. واعترفت الحكومات الإسبانية المتعاقبة بأن الإسلام أصبح جزءاً لا يتجزأ من هويتها وتاريخها، بل ونُشرت الكثير من الكتب والأبحاث والدراسات عن فضل العرب المسلمين على الحضارة الإسبانية. ثم في عام 1992 أسست المفوضية الإسلامية. وبدأت الحكومة الإسبانية منذ عام 2005 بتدريس الدين الإسلامي في العديد من المدارس الإسبانية في إطار قانون الإصلاح التربوي، على اعتبار أن العلمانية التي تنتهجها الحكومة في سياستها لا تتعارض مع تدريس الأديان السماوية كافة. فما الذي تغير الآن لكي يُحرم أحفاد الموريسكيين من نيل الجنسية الإسبانية؟ وما مبررات إسقاطهم واستبعادهم واستقصائهم؟ * باحث في الشؤون الإسلامية.