لم أعرف ياسر بكر عن قرب للأسف، ولكنه كان كريماً عندما فاجأني بحضوره إحدى مسرحياتي، وكنت بحق بخيلاً في حق نفسي عندما لم أجد وقتاً لحضور عروض الكوميدي كلوب رغم أن "السمي" أكرمني مرة أخرى بدعوة لم ألبِّها بسبب انشغالي بعروض مسرحية "مجلس الشقق". بكل تأكيد، قصرت في حق نفسي عندما لم أهتم كفاية بهذا المشروع الجديد ولكني في الحقيقة بقيت أراقبه، لا سيما أنه أصبح يبتلع زملائي في المجال الفني عموماً والمسرحي بشكل خاص. أشير إلى المشاركات التي تشرفت بها أنا وزملائي المسرحيون لتمثيل المملكة العربية السعودية في المحافل الدولية، نقدم فيها تارة العروض والتجارب، وتارة نستعرض أوراق العمل، وتارة نقدم التدريب للمسرحيين الهواة من واقع انغماسنا في المسرح والأداء التمثيلي وحرفية الكتابة والإخراج ودلالات السينوغرافيا ومهرجانات وملتقيات تكتظ بالنفَس الأكاديمي. كل ذلك يبهجنا إثر ما نلقى من حفاوة واهتمام، ورغم أننا نغرق في لجَّة التظاهرات الدولية، فإننا نعود إلى بيوتنا بعد ذلك مجهولين؛ فتلك الحفاوة التي تستقبلنا بها الهيئات والوزارات المضيفة يقابلها تجاهل محلي، مؤسسي أو جماهيري. لقد كانت فوقيتنا متضخمة، لدرجة أننا لم نسأل عن أصل هذا التجاهل وما نسميه مجازاً الجحود. أذكر عندما قدمت مسرحية "عميان" في مهرجان عالمي بتونس، نفدت تذاكر المسرحية باكراً، وتصلب الجمهور على الكراسي ولم يخرج من الفضاء المسرحي الذي قدمنا فيه العرض حتى انتهينا، وبقي بعض المشاهدين بعد العرض ليناقشوا مفاهيم العرض ويُدلوا بنقدهم وإعجابهم. هذه الحيوية لا نشاهدها في مسرحنا الجماهيري، وعندما نقيم مهرجاناً يجمع فرقاً مسرحية من مناطق مختلفة، فإننا نستكثر عليه فرض تذكرة الدخول، حتى لو كانت رمزية. سؤال أظن أن إجابته عالقة في تبرير البعض أن المسرح للنخبة وليس للعوام! وأعيد طرح السؤال بصيغة استهجان: لماذا لا يدفع هؤلاء النخبة.. هاه؟! في الحقيقة، حصلنا على الجوائز التي أضحت تملأ أرففنا، وشهادات تقدير وامتنان وعرفان تضمد جراحاتنا التي أُصبنا بها في معترك صراعاتنا مع جهات عملنا في سبيل الحصول على إذن بالتفرغ، أو تلك الإجراءات البيروقراطية التي تطاردنا لإنتاج عرض واحد، فلا مسرح يتسع لأحلامنا ولا دعم نلقاه يخلصنا من (مشروع القطَّة)، أو تلك المعاناة لاستخراج الموافقات والفسوحات والتصاريح. وما يزيد الطين بلة، ضعف الكادر الإداري الذي يقوم على إدارة الفرق ومتابعة أعمالها. كل ما سبق، جزء من البكائية المستمرة في مسرحنا والتي لم نجد لها حلاً؛ لأننا نكابر على جهلنا بصناعة المسرح التجاري؛ بل ونعتبره عاراً وابتذالاً رغم أن كثيراً منا عندما تُهيأ له فرصة العمل (كمقاول) بتعميد أو مبلغ -على الجاهز- فإنه لا يتأخر. الآن، يجب أن نقف احتراماً للمهندس الناجح ياسر بكر الذي قدم فن (ستاند أب كوميدي) بشكل احترافي، منطلقاً من تحت الصفر وأصبح لناديه فضل على فرع جمعية الثقافة والفنون بجدة، فقد جعل منها قِبلة شبه أسبوعية بعدما كانت لا تنتج شيئاً يليق ببيعه للجماهير التي أصبحت اليوم تتزاحم رجالاً وإناثاً على أبوابها. ربما عليَّ أن أؤكد الفارق الكبير بين المسرح والكوميديا الارتجالية (إن صح التعبير) من الناحية الإنتاجية كتكلفة، ولكن الحقيقة أن المشروع واحد من حيث الإدارة، وإذا لم نخطط بشكل يصنع من المسرح مكاناً لائقاً بجمهورنا ويحقق الارتقاء بالمتلقي، فسنبقى نندب ويتجاوزنا الزمن. الفن للناس، للشعب، للعامة، للجماهير. الفن لا يعرف التعصب والوساطة والمقاولات، ومن يقدم الفن كي يطبل له الناس أو ينافس فقط في المهرجانات فهو يقدم فناً في ملف النسيان، ولا يليق به إلا الجحود مهما كان بديعاً. وفي الحقيقة، لدينا فرق مسرحية نفخر بها وبمنجزها الذي لا تصفه الكلمات، فما يقدَّم على خشبات مسرحنا في غاية الإبداع وفي منتهى التألق، ومن المؤلم ألا يجد مسرحنا نقطة الاتصال مع الجماهير، التي بلا شك ستكون أجمل وأصدق من يُقدر للمسرحيين في وطننا تألقهم وبراعتهم. عموماً، شكراً ياسر بكر. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.