قُلتُ في حديثي السابق: إنَّ التربية بالتقليد والإيحاء تلائم مرحلة الطفولة المبكرة، وإذا استمرت إلى ما بعدها من مراحل النمو فسينشأ عنها قهرٌ فكري يُفقد الابن توازنه النفسي والعقلي. فهؤلاء الناشئة الذين تعرضوا إلى حالة القهر الفكري إذا ولجوا مرحلة الشباب فستتبلور لديهم حالة فِكريَّة جديدة تقضُّ مضاجع الآباء والمربين، لأنَّها ستُفقدهم السيطرة، وتنزع عنهم الهيبة، ولن تُفلح كلُّ أدوات الإقناع ولو اجتمعت في مسوغاتهم التقليدية مثل العيب، والحرام، والعادات، والتقاليد، فيتمردون على القديم، ويتبرأون من الموروث، ولسوف تتمكن الحيرة من عقولهم المتوقِّدة، ويسكن القلق وجدانهم الغض، ولن يكفُّوا عن التساؤل بـ «كيف، ولماذا، وماذا لو، ولِمَ؟»، ولأنَّ نمط تربيتهم لم يُخلِ بينهم وبين عقولهم وإرادتهم، ولمَّا لم يجدوا أجوبة شافية عن تساؤلاتهم، فإنَّ منهم مَن قد يُبدي توافقاً مؤقتاً ومحدوداً مع الطرف الأقوى، حتى إذا ما ترسَّخت لديه قناعاته الخاصة، وتهيأت له أسباب الاستقلال الذاتي، برز العصيان الفكري، ووقعت الخصومة بين الطرفين، ومع مرور الوقت ستسقط الاعتبارات، وتختفي ابتسامة المجاملات، ويقف التمرد مثل وحشٍ في حلبة نزال مجلجلاً بالعناد والتحدي، ورافضاً الانصياع للغير، فيتشكَّل سلوكهم تبعاً لذلك، ولن يثقوا إلا في أنفسهم خصوصاً بعد أن يكونوا قد حازوا على قدرٍ لا بأس به من الخبرات، وهيأت لهم أدوات المعرفة منجزات لم تتحقق لمَن قبلهم حينئذ سيظهر عجز الآباء عن التأثير فيهم، ولن يكون أمامهم سوى أن يكفُّوا أيديهم عنهم، ويعترفوا بالخسارة، ولكن ماذا ينفع الصوت بعد «الفوت»؟. إنَّ العقل هو مَحضن الفكر، وأداة بناء الشخصية المتطورة التي يرتجيها كلُّ مربٍّ، ودور الآباء يجب أن يكون داعماً للنمو العقلي والإثراء الفكري للأبناء، وألا يتَّخذ صفة القمع والتسلط فيحطِّم شخصياتهم، أو النمطية المتعسفة فينفلتوا من عقالهم. ومضة: «لا تُكرهوا أولادكم على آثاركم، فإنَّهم خلقوا لزمان غير زمانكم».