حتى لو اعتبر مؤتمر آستانة ناجحًا، وحتى لو تم الاتفاق على وقف لإطلاق النار، فإن «العبرة»، كما يقال، ستكون بالتنفيذ والتطبيق الواضح، بل المؤكد أن نظام بشار الأسد سيلجأ هذه المرة أيضًا إلى كل ما كان لجأ إليه في المرات السابقة لإحباط كل محاولات حل هذه الأزمة، التي أصبحت أكثر تعقيدًا من ذنب الضب، مستفيدًا من ميوعة أداء الإدارة الأميركية السابقة ورداءتها وأيضًا من الدور السيئ الذي لعبته روسيا الاتحادية، وخصوصًا بعد تدخلها العسكري الذي وصل إلى مستوى الاحتلال، والذي كان وصوله إلى ذروته سبب انتهاء حرب حلب إلى ما انتهت إليه. حتى الآن، وحتى بعد مؤتمر «آستانة»، فإن الواضح، بل إنَّ المؤكد أن هذا النظام، الذي غدا مجرد واجهة للتدخل الروسي والتدخل الإيراني حتى في الشؤون الداخلية السورية الصغيرة، لا يريد أي حلٍّ سياسي فعلي لهذه الأزمة، وإنه سيفعل ما كان فعله في المرات السابقة ليتهرب من أي اتفاق لوقف إطلاق النار بحجة ضرورة الاستمرار بمواجهة الإرهاب، وعلى اعتبار أن كل فصائل وتشكيلات المعارضة، حتى المعارضة «المعتدلة» من وجهة نظره هي تنظيمات إرهابية، مثلها مثل «داعش» و«النصرة»، وهنا ومع ضرورة الإشارة إلى أن قوات بشار الأسد ومعها الإيرانيون و«حزب الله» وأكثر من ستين تنظيمًا إرهابيًا لم تخض أي معركة فعلية وجدية مع أي من هذين التنظيمين الإرهابيين!! وهنا فإن المفترض أنه واضح حتى للمراقبين العاديين أن اختيار المندوب السوري إلى الأمم المتحدة بشار الجعفري، صاحب «مسرحية» أن أحد جنود قوات نظام الأسد قد جعل من جسده جسرًا لامرأة لمساعدتها في النزول من حافلة أو من مكان مرتفع، ليرأس وفد نظامه، لم يكن عبثيًا، فهذا الرجل أولاً من أصول إيرانية كما يقال، وثانيًا يملك لسانًا سليطًا ولا يخجل من أن يكذب كذبة كبرى أمام جمهور كبير وفي وضح النهار ودون أن يرف له جفن، وثالثًا لأنه يحمل اسم رئيسه ولأنه من أتباع «العلوية السياسية»، وهناك فرق هائل وكبير بين العلويين «النصيريين» وبين حزب العلوية السياسية التي احتكرت كل المواقع المؤثرة في السلطة السورية منذ أن قام حافظ الأسد بانقلابه على من كانوا يُعْتبرون «رفاقه» في عام 1970. كان بشار الجعفري قد أطلق تصريحًا، على خلفية كل المناورات التي اتبعها هو ووفده ونظامه خلال الأعوام الثلاثة الماضية، قال فيه إنه والآخرين من أعضاء وفده الذين رافقوه إلى آستانة سيسعون لإيجاد «قواسم مشتركة لمكافحة الإرهاب»، والهدف هنا كما هو واضح هو إغراق هذا المؤتمر بما كانت أغرقت به مؤتمرات ولقاءات سابقة، وكانت النتيجة أن العملية السياسية قد توقفت نهائيًا، وأنَّ المواجهات العسكرية قد تواصلت وبلغت ذروتها بعد ذلك التدخل العسكري الروسي في نهايات سبتمبر (أيلول) عام 2015، وحيث أدلى سيرغي لافروف عشية انعقاد هذا المؤتمر، أي مؤتمر العاصمة الكازاخية بتصريح صحافي حمّال أوجه، قال فيه: «إن نظام بشار الأسد كان سيسقط لولا تدخلنا خلال أسبوعين أو ثلاثة أسابيع». والآن فإن «السيناريو» السابق يتكرر مرة أخرى، فرئيس وفد نظام بشار الأسد بعد محاولة فاشلة لافتعال اشتباك كلامي مع وفد المعارضة قد سعى لأخذ هذا المؤتمر والمؤتمرين إلى متاهات جانبية بتجنب مسألة أن هذا المؤتمر قد انعقد أساسًا من أجل الاتفاق على وقف فعلي لإطلاق النار وتوفير المساعدات الإنسانية المطلوبة للمحاصرين في كثير من المناطق السورية والتركيز، وكما في المرات السابقة على ضرورة البحث عن «قواسم مشتركة» لمكافحة الإرهاب، وكل هذا في حين أنه لم يتردد في اتهام رئيس وأعضاء وفد المعارضين بأنهم إرهابيون ينتمون إلى «العصابات الإرهابية المسلحة»!! في كل الأحوال، لقد ثبت ومنذ اللحظات الأولى أن نظام الأسد قد أرسل هذا الوفد الذي اختار بشار الجعفري رئيسًا له لتفجير مؤتمر آستانة بمساعدة ومساندة وفد إيران التي كانت قد أعلنت عن معارضتها وعن رفضها لانعقاد هكذا مؤتمر ولمشاركة الولايات المتحدة فيه وإنْ بصفة مراقب من خلال سفيرها في العاصمة الكازاخية، فإيران التي باتت تشعر بأنها حققت معظم ما تريده في هذه المنطقة بتدخلها في العراق وسوريا، وقبلهما لبنان، لا تريد أي وقف لإطلاق النار على الأراضي السورية قبل أن تستكمل سيطرتها على هذا البلد العربي، وقبل أن تحقق كل أهدافها فيه. لقد بات واضحًا ومؤكدًا أن إيران قد جاءت إلى سوريا بمخطط اسمه «التغيير الديموغرافي»، وحقيقة أن هذا المخطط قد تجسد على الأرض أولاً من خلال ما سماه بشار الأسد «سوريا المفيدة»، وثانيًا من خلال عمليات البيع الأخيرة التي تمت في طهران بتوقيع رئيس وزراء «سوريٍّ» يقال إن اسمه عماد خميس، وثالثًا من خلال هيمنة الإيرانيين على أهم المواقع التاريخية في دمشق - الشام وفي غوطتها والمناطق المحيطة بها وأيضًا من خلال هذه «المستوطنات»... نعم المستوطنات التي باتت تظهر تباعًا في كثير من القرى التي تم تفريغها من أهلها، بقوة «مغاوير حزب الله» وحراس الثورة الإيرانية. إنَّ أطماع إيران في هذه المنطقة العربية باتت واضحة ومعلنة ومعروفة وقد تحدث عنها كبار المسؤولين الإيرانيين، وعلى رأسهم مرشد الثورة الولي الفقيه علي خامنئي، أكثر من مرة، وهذا يعني أنه وحتى إنْ تم التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار، إنْ في آستانة وإنْ في غيرها، فإن الإيرانيين سيحبطونه، وهذا اللهم إلاّ إذا أظهر الروس جدية حقيقية وفعلية في التعاطي مع هذه المسألة الخطيرة، وهذا ما يبدو أنهم أبلغوه لـ«حلفائهم» الأتراك واتفقوا معهم بشأنه وأبلغوه أيضًا لبعض الدول العربية المعنية. لكن يجب أن يكون واضحًا ومعروفًا ومنذ الآن أن الإيرانيين لا يمكن أن يقبلوا بأي حلٍّ سياسي لا يضمن بقاءهم في هذا البلد العربي وأنهم سيقاومون «جنيف1» والقرارات الدولية الأخرى بقوة السلاح، وكل هذا في حين أن بقاء إيران في سوريا سيعني تقسيمها، إن عاجلاً وإن آجلاً، على أسس طائفية ومذهبية، وهنا فإن المؤكد أنَّ عدوى مثل هذا التقسيم، إن هو حصل، ستنتقل إلى تركيا، وأن سيف التشظي سيضرب دول هذه المنطقة كلها وبما فيها حتى الدول التي تعتبر نفسها بعيدة ومحصنة. وهكذا وفي النهاية فإنه على الروس والأتراك أن يدركوا أن الوجود الإيراني في سوريا سيتحول إلى وجود ربما يهدد دول هذه المنطقة، وهذا يعني أن أي حل للأزمة السورية يجب أن يبدأ بإخراج الإيرانيين من هذا البلد العربي!!