بدأ المشهد كاسحاً، بينما تسلك مدرعات الجيش المصري طريقها في قافلة طويلة متجهة إلى ميدان التحرير. لم يكد أحد يستوعب ما يرى، فنحن لم نر المدرعات إلا في الأفلام الحربية. الجسم الضخم يتقدم ببطء والجميع في حالة ذهول: هل نزل الجيش فعلاً للشارع؟ بدأ التسارع الدرامي للأحداث في جمعة الغضب 28 يناير، غير قابل للسيطرة، ومنذ هذه اللحظة، التي نزلت فيها المدرعات، لم يعد شيء في موضعه في مصر. يبث الشريط الإخباري لقناة الجزيرة نبأً يفيد بمشاهدة مركبات الجيش المصري متجهة نحو التحرير. يقف المتظاهرون فاغرين أفواههم حيال المشهد. يبدو كما لو أن أحداً ضغط على زر Pause، فتجمدت الصورة، وفي الناحيتين، جنود بملابس الجيش، متمترسون داخل مركباتهم وزيهم العسكري الموحد، وفي الناحية الأخرى مواطنون عُزل لا يستوعبون ما يرون. يضغط أحد على زر Play لتدب الحياة في المشهد مرة أخرى. يظهر شخص ما من العدم، ويهتف هتافاً لا ندري مصدره إلى اليوم: "الجيش والشعب إيد واحدة". فجأة يتحول المشهد الدراماتيكي إلى لوحة كرنفالية غير مفهومة، لم تأخذ حقها من التحليل النفسي اللائق حتى اليوم. يتسلق المتظاهرون المدرعات، يضعون عليها أعلام مصر، يهتفون من فوقها بكل مرح وبهجة ضد مبارك، وكأن كل مصري صعد فوق مدرعة، تدرب على هذا طويلاً، ما لم يكن من مواليد جوف المدرعة نفسها! لا نعرف لماذا اعتقدنا ساعتها أن الجيش معنا، هل صكت هذه الجملة "الجيش والشعب إيد واحدة" سقفاً أخلاقياً لعلاقة الطرفين أحدهما بالآخر؟ هل فرض قائلها، بسيف الحياء، تصوراً بعينه على المؤسسة العسكرية؟ أو أنه كان حسن النية؟ أو لعلها طبائع الأمور وحقيقتها؟ في ما بعد، ومع روايات متناثرة، ستنسب للفريق أحمد شفيق رئيس الوزراء آنذاك، واللواء عمر سليمان نائب رئيس الجمهورية ورئيس المخابرات الأسبق، سيفهم منها أن مبارك استوعب أن التزام المؤسسة العسكرية حياداً طيلة 18 يوماً، كان رسالةً صريحة بالتخلي عن دعم الرجل المزمن على كرسي الحكم. إذن كان في الأمر كثير من البراغماتية، وكثير من تلاقي المصالح، وقليل من العواطف الجامحة، التي هتفنا باسمها "الجيش والشعب إيد واحدة". من هذه الجملة، التي ستأخذ منحنى مستقبلياً غير متوقع، سيخرج الممثل طلعت زكريا على شاشات التلفزيون، ليزعم أن ميدان التحرير يشهد "علاقات جنسية كاملة" بين المتظاهرين. لتصبح هذه الجملة، محل هجوم عنيف على الفنان، الذي سيبدو أنه فقد الخيط الفاصل بين قيامه بدور طاهي رئيس الجمهورية في فيلم "طباخ الرئيس"، وبين قيامه بدور فعلي في خدمة "الرئيس"، على أرض الواقع بتشويه صورة معارضيه. ورغم الغضب من "مزاعم" زكريا، ستصبح الجملة محل تندر واستهزاء من ثوار يناير أنفسهم، في سياق سخريتهم من الروايات المضادة لروايتهم الذاتية عن ثورة الكرامة. وبينما تتوالى الأنباء عن مفاوضات وضغوط، يشارك فيها كوكب الأرض، من أقصاه لأقصاه، ستتسرب شائعات عن سيناريو يفضي إلى أن يتولى رئيس الأركان سامي عنان مقاليد الأمور، أو أن يظل مبارك على العرش بينما يتولى عمر سليمان دفة الإدارة عدة شهور انتقالية قبيل إجراء انتخابات رئاسية جديدة. سيهتف أحدهم "مش هنمشي... هو يمشي"، ليرتفع سقف الضغط، دون مقدمات أو نوايا متماسكة، إلى حد طلب مغادرة مبارك شخصياً لمنصبه، بعدما كان أقصى طموح الثورة إقالة وزير الداخلية الشرس حبيب العادلي، فحسب. في ما بعد، سألتقي شخصاً (شغل منصباً هاماً بعدها)، كان على اطلاع على كواليس ما يجري في جسم الدولة أثناء يناير، ليقول لي: "لولا رعونة مطلب رحيل مبارك... لما رحل أصلاً، والسر كله في هتاف مش هنمشي.. هو يمشي الذي قفز بالأمور لمنتهاها". بعد رحيل مبارك، سيحكي لنا أصدقاؤنا العائدون من الخارج في أسفارهم حول العالم، قصصاً مختلفة، تبدأ بالجملة نفسها: "بس يا سيدي... وشافوا الباسبور المصري"، في إشارة إلى الشعبية التي كان يحظى بها المصريون في مطارات العالم، وسط ضباط الجوازات والمسافرين، حين يعرفون أن هذا المواطن يحمل الجنسية المصرية وجاء من ميدان التحرير. وبعد أسابيع الفخر والزهو بالانتصار غير المتوقع، الذي حصدته يناير وحققته مصر، ستسوء الأمور. ستسوء للغاية. "اشهد يا محمد محمود... كانوا ديابة وكنا أسود". هكذا ستهتف الحناجر ضد وزارة الداخلية، بعد الأحداث الدامية التي تكررت لعامين متتاليين، في شارع محمد محمود بميدان التحرير. بينما تتوجه الاتهامات ضمناً للأخوان والمجلس العسكري بالتواطؤ ضد الثوار في أحداث محمد محمود. ثم من بعد "الجيش والشعب.. إيد واحدة"، سيتغير الهتاف إلى "يسقط يسقط حكم العسكر"، في إشارة لغضب من موائمات وسياسات المجلس العسكري. ثم في إشارة أكثر غضباً لحكم الجيش للبلاد بعد ثورة يوليو 1952، التي جاءت بالرؤساء عبد الناصر والسادات ومبارك تباعاً طيلة 59 عاماً، كان يفترض أن تكون مصر خلالها أحسن حالاً مما هي عليه. ستمضي الشهور سريعاً، وسنجد أنفسنا حيال انتخابات رئاسية يصل إلى محطتها النهائية خياران، أحلاهما مرُ: مرسي وشفيق! لم يفهم أحد كيف وصلنا إلى المفاضلة بين مرشح الأخوان المسلمين، وآخر رئيس وزراء في عصر مبارك، لتنضم مقولة جديدة من أشهر مقولات الثورة المصرية على مدار عمرها، إلى القاموس السياسي للبلاد، حين قال أحدهم: "خلافنا مع مرسي سياسي. لكنه مع شفيق جنائي"، في إشارة إلى خلاف تيار الثورة، الذي كان حينها عفوياً قوياً، مع مرسي على مستوى سياسي، في حين أنه يتخذ أبعاداً جنائية، وفقاً لما غذاه البعض حول مسؤولية الفريق أحمد شفيق عما سُمي بموقعة الجمل، أثناء ثورة يناير، التي كانت الأكثر دموية على الإطلاق. سيفوز مرسي بالانتخابات بعدما حصد أصوات الإخوان المسلمين وحلفائهم، وقطاع من تيار الثورة، اصطلح على تسميته بـ"عاصري الليمون"، ممن قبلوا التحالف مع الأخوان مؤقتاً، بوصفهم "ثواراً محتملين"، مقارنةً بشفيق، الذي قيل إنه يمثل دولة مبارك، في واحدة من كبرى المغامرات السياسية التي انتهت نهاية مأسوية. وقبيل أن يتم محمد مرسي عاماً في الحكم، ستهتف الجماهير "انزل يا سيسي.. مرسي مش رئيسي"، في إشارة مبكرة لدعوة الشعب للمؤسسة العسكرية لإزاحة الأخوان من الحكم. سينزل السيسي بالفعل وسيطيح بمرسي، لكن الأمور لن تسير على ما يرام، للدرجة التي سيقال معها: "يا اللي بتهتف مرسي وسيسي... لا ده هيرجع ولا ده رئيسي". في إشارة لاعتزال فريق من المصريين للاستقطاب الحاد الذي شهدته البلاد، بين أنصار الرئيس المعزول، والرئيس الجديد. وبين مقولات الثورة، ستنتهي الأمور للسردية الأكثر إحباطاً، وميلاً للاعتزال: "يسقط كل من خان... عسكر فلول أو أخوان". ينظر البعض لثورة يناير على أنها الأقل إخفاقاً بين مثيلاتها العربية، بوصفها حققت حداً أدنى من المكاسب بالإطاحة برئيسين، ثم بقدرتها على فرض نفسها طرفاً في معادلة الحكم اليوم في مصر، حتى لو كانت واقعة تحت ضغوط عنيفة من النظام الحاكم، ومحاصرة بكل السبل تقريباً. في حين يراها آخرون الأكثر إخفاقاً، قياساً بنتائج البدايات المبهرة، والآمال التي كانت معقودة عليها، وصولاً للنقطة التي آلت إليها الآن. ربما من الممكن النظر إليها باستخدام تعبير تيار المعتزلة لوصف إحدى المسائل الإيمانية المعقدة، حين قالوا: "الأمر في منزلة بين منزلتين"، فلا هي التي انتصرت كل الانتصار، ولا هي التي انهزمت كل الهزيمة. هذه التدوينة تعبر عن رأي أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي رصيف22. أحمد الدريني صحافي مصري كلمات مفتاحية 25 يناير مدونة مصر التعليقات