استعرضت الأسبوع الماضي المدينة الإنسانية في محاولة لتقريب المفهوم من خلال قيم ومفاهيم يمكن للمدن أن تتبناها لتصبح أكثر ملاءمة للإنسان وتضفي بعدا إنسانيا عليها. اليوم أود الحديث عن ثلاثة من هذه المفاهيم وهي «الحسية» (sensoriality) و«الجماليات» (aesthetics) و«الألفة» (intimacy)، وذلك لاستعراض معانيها وتقريبها كأطر تساعدنا في فهم المكان. وإن كان كل مفهوم يمكن تناوله على حدة إلا أنني أراها مرتبطة عندما نحاول فهم علاقتنا بمدننا. نتلقى جميع المعلومات وندرك ما حولنا من خلال الحواس الخمس ويندرج تحت هذا كل ما نعيشه في المدن. فهي تتميز عن بعضها البعض من خلال المعلومات الحسية التي نتلقاها. وهذا في صميم أول مفهوم وهو الحسية. فرائحة البحر في المدن الساحلية والغبار في المدن الصحراوية إحدى هذه المعلومات المحددة وقد لا يكون لنا تأثير عليها. ولكن في المقابل هناك معلومات حسية تصلنا على شكل هجوم يشن على حواسنا في مدن كثيرة، من تلوث بصري وضوضاء وتلوث المناطق الصناعية، وهذا ينعكس سلبا على مستوى الراحة والرفاهية التي نعيشها ويخفض من جودة الحياة بشكل عام. وهذه تعد من المحفزات الحسية السلبية التي نستطيع السيطرة عليها والتحكم بها. وكما نضيف المحفزات السلبية للمدن يمكننا في المقابل أن نصمم ونخطط لإضافة الإيجابي منها. ليس سوء المعلومات الحسية فقط من المشاكل التي نعاني منها ولكن تفضيل العمارة والعمران لحاسة دون الأخريات. فالتجارب الحسية الغنية يكون فيها تناغم بين الحواس، كأن تشم ما تأكله فتعزز الرائحة الطعم وهذا كذلك ينطبق على العمارة ومقياس المدينة. فالعمارة الحديثة تفضل حاسة البصر على الحواس الأخرى، مما أثر على التصاميم بشكل عام وأفقرها بحسب المعماري والمنظر الفنلندي الشهير يوهاني بالاسما (Juhani Pallasmaa) في كتابه المؤثر (The Eyes of the Skin) «عيون الجلد». فبعد أن أصبحنا نعيش المدن من خلال التجول بالسيارة انعدمت الحاجة لإضفاء تفاصيل جمالية غنية على المباني لأننا لن ندركها. لذلك كلما ابتعدنا عن مستوى البصر قلت التفاصيل، وهذا متبع كذلك في العمارة الكلاسيكية اليونانية والرومانية ومع ذلك تعتبر غنية بالمحفزات البصرية مقارنة باليوم. أما المفهوم الثاني وهو الجماليات فقد كان لفترة طويلة يخص الفن وتاريخه، إلا أن المفهوم انتشر في الآونة الأخيرة ليشمل التجارب الحسية للناس بشكل عميق لتتعدى الجماليات ما يدرك بالبصر ويدعو للتفاعل البشري مع محيطهم. والمقصد هنا أن يجد الإنسان نفسه في المكان ويستشعر ذلك من خلال تخيل ارتباط وثيق. أحد هذه الارتباطات الطبيعية والضرورية هي علاقة الإنسان مع الطبيعة التي نجد سهولة كبيرة في تخيلنا كجزء منها وارتباط آخر يكون مع تاريخ المكان. كان مفهوم الجماليات جزءا أساسيا في بعض نظريات تصميم المدن مثل حركة (City Beautiful) إلا أنه اختفى وقد يكون سبب اختفائه يرجع إلى صعوبة تحديد مفهوم تصميمي قد يختلف على معناه الكثيرون، وبهذا فقدت محاولات جادة في تجميل المكان. وأخيرا مفهوم الألفة الذي قد يكون أكثر المفاهيم الثلاثة غرابة. فكيف نحس بالألفة مع المدينة المترامية الأطراف؟ ماذا تعني الألفة في هذا السياق؟ قد ترتبط للبعض بالفراغات التي عاشوا فيها مراحل مختلفة من حياتهم، وتوطيد العلاقة من خلال التكرار ولكن بالنسبة لي أجد الألفة في الهدوء. فعندما تسكن الضوضاء وأسمع صوتي الداخلي يبدأ الحوار الشخصي مع المدينة، ونبدأ بالتقارب كطفلين التقيا صدفة وتبادلا النظرات المعبرة حتى ينتقلا للعب متفاهمين دون حاجة للكلام. نجد الألفة أيضا يعبر عنها الكتاب عندما ينسجون قصصهم الشخصية محبوكة في سياق المدينة، تفقد القصة رونقها وعمقها دون هذا التداخل، ويصعب فصل الشخصية عن مكانها وكأن إحداهما شكلت الأخرى. المفاهيم الثلاثة ترتبط بعمق مع التجارب الإنسانية من إدراك حسي وتقدير جمالي، وتكوين علاقة من خلال تجارب فراغية عميقة تتعدى اللحظة التاريخية التي نعيشها، متعلقين بشاشات الأجهزة الذكية ومتخيلين ثلاثية الأبعاد من ثنائيتها. من خلال تجارب العيش الغنية تكتسب المدن معاني شخصية ويتعدى ذلك المحسوس ليثري الحياة.