بمقدارٍ كبير من العفوية، ودرجة عالية من البساطة والحيويّة، يفاجئ الشاعر الشابّ محمّد عريقات، قُرّاء مجموعته الجديدة «أكلتني الشجرة»، عبر قصائد قد تشكّل «صدمة» ناتجة من العوالم «الشعبيّة» التي تنهل منها، والمناخات «الحميميّة» التي تخلقها وتُشيعها. ولكن، حين نكاد نغرق في أجواء البؤس والفقر والمعاناة، تأتي مشاعر الحُبّ والإلفة من جهة مقابلة لتخلق نوعاً من التوازن، بل يحدث أن الحبّ يغلق أبواب اليأس أمام تدفّق الألم وطُغيانه. تجربة عريقات واحدة من التجارب الشعرية اللافتة، لا سيما في مجموعته الجديدة، وهي الرابعة بعد «هروباً من الشعر» (2006)، و «حين أمسك بالفرح» (2008)، و «أرمل السّكينة» (2009). إنه يغوص في عوالم نعرفها ونعيشها واقعاً، لكنّ التعبير عنها، في تجارب أبناء جيله من شعراء قصيدة النثر، يظلّ نادراً وسطحياً، خصوصاً عند من يكتبون الشعر بروح نثرية، في ظل سيادة مفاهيم «حداثية» مغلوطة، لجهة الاهتمام بغياب بل «موت المعنى»، كما يحلو لبعضهم القول. مع قصائد «أكلتني الشجرة» (المؤسسة العربية للدراسات والنشر- بيروت وعمّان)، نجد أنفسنا أمام «نفَس» شِعريّ مختلف، يبني قصيدة واقعيّة على قدر من الخشونة والقسوة. هي خشونة الواقع، وقسوة الحياة التي يعيشها الشاعر، أو الفئة/ الشريحة التي تمثّلها القصيدة. ففي قصيدة «قميص مشجّر... صحراء شاسعة»، يقول عريقات: «لم أرَ غيرَ الفقراء يتجمهرون حولَ ماكينةِ الخياطة/ بقلوبهم الممزّقة»، ويوغل في هذا العالَم: الفقراءُ/ هم أصدقاءُ السَكينةِ/ تنامُ أبوابُهم بلا أقفالٍ تنبحُ...». إنّنا إزاء حشد من مفردات البؤس، صور الموت المتعدّد والمتدرّج، الجوع، الوحدة والعزلة والضجر، اليأس والانتحار. شِعريّة القصيدة هنا تتولّد من المفارقة، من رغبة في المواجهة، بل قدرة على خلق الفرح من الألم: «فرح صنعناه من حواضرِ البيت»، أو يكتب عن «قضمة للرفض من خبز رضانا». وهو كثير العودة إلى عالم الطفولة، لكنّ الخشنة والقاسية «قلبي كثير الخدوش/ مثلَ ركبةِ الطفلِ»، ومع ذلك لا يزال ثمة ملامح من حميميّة ما في العلاقات، ففي قصيدة «ثلاثة مناديل لمناحة» نجد هذا التضامن والتعاطف في «حزن أمي على ابنِ جارتها/ وحزن جارتها على أخي/ الذي غابَ كطائرةٍ ورقيةٍ». وكأيّ خارج على القوانين «قضيتُ مساءَ الأمس/ في لملمة نقودي من أكثر من بنطالٍ وحقيبةٍ»، يجترح عالمه الموازي «تشاغلتُ عن الوِحدة بكتابةِ قصيدة»، بل ثمّة ولادة للشيء من نقيضه «تعالي نتعلم المحبّة من قسوةِ الوحش». إنه لا يريد من الحياة كثيراً من العُمر «نعِدُك أن نطلب الموت، بالهاتف، لحظة نكمل الخمسين». وأيّام الأسبوع عنده هي كائن حيّ، شخص يبدأ «منذُ عُنُقِ السَّبتِ وحتى ثُمالةِ الخميس»، وفي الأثناء يبوح «أقنعُ وحدتي باصطحابي إلى كرنفالٍ قرأتُهُ في الجريدة». ولفرط بساطته، وبساطة قصيدته وعوالمها، نراه يناهض التصنّع، بل هو لا يتورّع عن التساؤل «لِمَ أبحث عن مفرداتٍ أقلّ فخامة من الشِّعر؟»، كما إنه يذهب إلى القصيدة العفويّة، وربّما يتركها تأتيه طائعة، لا تلك القصيدة التي «يجرّها الشاعرُ إلى الورقةِ من شَعرِها...»، ويسخر من هذا اللون من الافتعال «أنا شاعرٌ جاهليٌّ فضتُ على القافيةِ/ وقادت «فعولن» الذئب إلى قصيدتي من أذنه. وداستني الناقة في طريقها بي إلى الفندُقْ». وللمدينة في قصيدة عريقات حضور حافل بالاغتراب، كذلك الذي نجده لدى شعراء الخمسينات والستينات، حيث المدينة «بلا قلب» مثلاً، لكنّه يُضفي على هذه الصور خاصيّته هو، بوصفه الإنسان الهامشيّ، بل المهمَّش. صورة مدينته تعكس صورته، أو ربّما كانت صورته هي التي تعكس صورة مدينته، المدينة ذات الطابع المحافِظ، إذ إنّ حرّاس المدينة، بل لصوصها «يغرسون على جانبيها أعمدة النّور، وتظلّ معتمة. كلّما لحقتُها بالقصيدة عضّني كلبها... سأحفِرُ في الشِّبرِ الذي بيننا قبر هذي المدينة... وأقفُ كالشاهدة». وبمزيد من التحدّي، ومتوجّهاً «إلى كفار قريش» يرى «المدينةُ تتبعني بسياطِ الأخلاقِ الحسنةِ/ سأنامُ الليلة في دفترِ الرسمِ/ وأنجو برذيلتي». لكنّ الأمر يختلف مع مدينة رام الله، فهي «مهووسةٌ»، وهي «المدينة التي كان يسكنها الله»، وهي كما في عنوان إحدى القصائد «مربطُ القلب»، حيث يقف أمام صبيّة فيخاطبها، في لحظة تجمَع الشأن العاطفيّ إلى الوطنيّ «يدرِكُ الشاعِرُ أن دبوسَ شعركِ أعتى من جنازير دبابةٍ تفرُمُ الهواءْ». وكما تحضر الواقعيّة بشراسة خشونتها، فهي تأتي ممزوجة بالصورة السرياليّة، ذاهبة في اتّجاه أسئلة وجوديّة، يتداخل فيها المخيال الفانتازيّ مع سخرية شديدة المرارة. نحن هنا أمام مفارقات غرائبية خارجة على المألوف حيث «سندان مصنوعٍ من جناحِ فراشةٍ»، أو «مطرقة تشبه الأمومة في أقسى حالاتها»، أو هي شخص لشدّة الفرح حيناً، ولشدّة الضجر ربّما، يغدو في حال كالذئب «يدفعني الحبور/ لأن أملأ الليلَ بالعواءِ/ وأن أرقصَ مع صديقٍ ثمِلٍ يحملُ عني العواء/ لحظةَ أبكي». وقبل الخِتام، ختام القصيدة أو ختام الكتاب، يبشّرنا الشاعر بالجديد، معلناً «لن أنامَ قبل أن أضيف كلمة جديدة/ أو أستيقظ على رائحةِ قصيدةٍ في طبق/.../ وأحطّم جمجمتي بمطرقةِ العدالةِ». إنّه يرى طريقه إلى هذه العدالة، في الانتقام من سبب غيابها «سأنتقم للشجرة من نجّار المَلِك». ولأنه كثير الخسارة، فهو يرى أنه لن يخسر أكثر، لذا فإنه دائم النظر إلى أمام: «تلك الخسارات/ لا تلوي عنقي إلى الخلف/.../ لا شيء لي وراء كتفي سوى/ أثر حذاء/ ونطفة يابسة/ وزجاجة فارغة عند كل منعطف/ وذكريات تقفز أمامي/ مثل كلب نشيط».