وضعية المرأة المُبدعةُ أكثرُ تعقيدًا وتأزُّمًا فهي -فضلاً عن طبيعتها الأنثوية الفيّاضة بالعاطفةِ والنشاط النفسي- تمتازُ بسماتِ الشخصية المبدعة. العرب كاميليا عبدالفتاح [نُشرفي2017/01/22، العدد: 10520، ص(13)] لوحة: رندة حجازي الأمازونيات نساءٌ مقاتلاتٌ ذكرهن “هيرودوت” في تاريخه، وأشار إلى أنّهن عشن في شمال البحر الأسودِ، ورأى بعض المؤرخين أنهنّ عشنَ في أفريقيا. والمرأةُ الأمازونية امرأةٌ قوية يصطرعُ فيها الميلُ الفطري الأنثوي للرجل مع الميول القتالية الاستقلالية ؛ فهي تتزوج الرجل، وتنجبُ منه، لكنها تؤثرُ العيش مستقلة عنه، بل وتهيمنُ عليه -في كثيرٍ من الأقوال- وهي تعيشُ على القتال؛ ولذلك كانت المرأة الأمازونية تعمدُ إلى بتر أحد ثدييها حتى تتمكن من وضع الرمحِ والقوس أو السيف -عليه- بينما تحتفظُ بالثدي الآخر. من هنا اتخذتُ هذه الوضعية الأمازونية عنوانًا لهذه القراءة النقدية؛ فهي وضعية تراجيدية يصطرعُ فيها التكوين الأنثوي مع نقيضه، وتعاني فيها الأنثى من ميلها إلى الرجل، واضطرارها إلى محاربته والاستقلال عنه، في الوقت ذاته -بما يُشبه في افتراضي- وضعية التأزّم النفسي والإنساني التي تعاني منها المرأةُ العربية عامة والمبدعة العربية خاصة، حيثُ تكابد هذا الصراع وهذه المفارقات بين ميلها إلى الرجل حبيبًا، زوجًا، صديقًا -إلى آخر ذلك- وتضطر إلى مواجهة القهر والاستبداد الذكوري المُهدِّد لكينونتها وتفرّدها. لا تزالُ المرأةُ، في افتراضي، تعاني من التناقض والاضطراب خاصة في المجتمع ِالعربيِّ على صعيدِ وضعيتِها الاجتماعية والإنسانية والفكرية، لا تزال تُواجهُ من قطاعِ كبيرٍ في المجتمعِ العربيِّ باعتبارِها كيانًا إنسانيًّا ناقصًا لا يكتملُ إلَّا بالتبعيّةِ للرجلِ، و لاتزالُ، في افتراضي، في صراع من أجل الدفاع عن هويّتها. ولعلّ الناقدة الأدبية والمعنيَّة بالنسوية جوليا كريستيفا قد لخّصت هذا الأمر في إشارتها إلى أنّ “المسألة النسوية قد شهدت تطورا في القرن العشرين عبر مراحل عدة، أولها: حول هوية النساء مع الرجال، والمرحلة الثانية كانت حول هوية النساء ضد الرجال، بينما شهدت المرحلة الثالثة شكّا حول مسألة الهوية برمّتها” (1). وإنَّ وضعية المرأة المُبدعةُ أكثرُ تعقيدًا وتأزُّمًا؛ فهي -فضلاً عن طبيعتها الأنثوية الفيّاضة بالعاطفةِ والنشاط النفسي- تمتازُ بسماتِ الشخصية المبدعة، وما تقتضيه من حساسية ورهافةٍ، ونفاذِ روحٍ؛ فهي كيانٌ ثائرُ الفكر والشعور؛ ومن هنا تكابدُ أعمقَ مذاقات الاغتراب والتّصدع؛ النَّاتجِ من التناقض الصارخ بين ما تفرضهُ وضعيتُها الإبداعية من قيمةٍ وتقديرٍ وإكبارٍ، وما تلقاه على صعيد الواقعِ من إهمالٍ، أو إنكارٍ، أو قهرٍ، وإقلالٍ من الشأنِ. لا تزال المرأة، في افتراضي، تعاني من التناقض والاضطراب خاصة في المجتمع العربي على صعيد وضعيتها الاجتماعية والإنسانية والفكرية إنَّ هذه الوضعية المتأزِّمة للمرأةِ الكاتبةِ -فضلًا عن الوضعية المتأزِّمة للمرأة عامة- اقتضت كثيرًا من السماتِ الشخصانية في الكتابة النِّسائية، وهي شخصانيةٌ حتميةٌ، على صعيد المضمون والرؤى، وبعض سمات التشكيل الجمالي؛ ومن ثمَّ أتفقُ مع هيلين سيكسو في أنَّ الإبداع النسويّ “يحدثُ في مناطق غير تلك التابعة للهيمنة في النظرية الفلسفية. فهي لا تريدُ أن تدخل…، خارج المطلق النظري تتشكلُ الكتابةُ النسويةُ، وبالتحديد تتشكلُ في الثغرات التي لا تُسلط عليها الأضواءُ من قِبل البنية الفكرية الأبوية. بمعنى آخر هذه الثغرات موجودةٌ بالفعل وكائنةٌ ، لكنه غيرُ معترفٍ بها” (2). بهذا المفهوم نذهبُ إلى أنَّ مصطلح “الإبداع النَّسْويّ” أدقُّ في التعبير من “الإبداعِ النِّسائيّ”؛ فالأوَّلُ “هو النصّ الذي يأخذ المرأة كفاعلٍ في اعتباره، وهو النصُّ القادرُ على تحويل الرؤية المعرفية والأنطولوجية للمرأة إلى علاقاتٍ نصيّة، وهو النصّ المهمومُ بالأنثويّ المسكوتِ عنهُ، الأنثوي الذي يُشكّلُ وجودُه خلخلةَ للثقافة المهيمنة، وهو الأنثوي الكامنُ في فجوات هذه الثقافة ، وأخيرا هو الأنثوي الذي يشغلُ الهامش”. [د. شيرين: كتاب نسائي أم نسوي] (3 ). وقد ارتضيتُ في هذه الدراسة أنْ أطرح مقاربة نقديةً حولَ بعضِ نماذج من السيرةِ الذَّاتية النَّسويةِ؛ لأنَّ السيرة الذاتيةَ نصُّ مُعلن يضمرُ آخر غيرَ مرئيٍّ؛ فالمُعلن هو الوقائع التي عاشتها الذاتُ الساردة، أمَّا المُضمرُ فهو الوقائع الحُلمية أو الواقعُ المُرتجى الذي ظلَّ حلمًا غيرَ مُتحقّقٍ لهذه الذات. نحنُ في السيرة الذاتية بين نصٍ ظاهر، وآخر مراوغ إشاري، وأمامَ محاولةٌ إبداعيةٌ لإعادة بناء الذات كما ذهب شاري بنستوك في تعريف هذا النمط الإبداعي؛ فهي ترتكزُ على بروز الذاتية؛ بما يجعلها النمطَ الإبداعي الأكثر قدرةً في إبراز مواجهةِ الذات الأنثوية المبدعة للآخر، وإدانة الوقائع والأغيار المُستلِبة؛ وبذلك تتصدى السيرة الذاتية للخوف التاريخي المسكون في ذاكرة المرأة من التعبير عن الذات، تتصدى لذلك الركام من الاختباء والمواربة والتورية، والتقنّع والتَّبرؤ من نسبةِ كتابتها إليها كما تقولُ جين أتوميكينس (4). تخيَّرتُ في هذه المقاربة النقدية نماذج من السيرة الذاتية النَّسوية لكلٍّ من الشاعرة الفلسطينية فدوى طُوقان، الكاتبة والمُفكّرة نوال السعداوي، الأديبة والمفكرة عائشة عبدالرحمن، فضلًا عن وقفةٍ قصيرة مع الأديبة اللبنانية مي زيادة. تُوشكُ إشكاليةُ “تأزُّم وضعية الذات الأنثوية” أن تكونَ الإشكالية التي تتسيّدُ موضوعات هذه النماذج من السيرة الذاتية، وتُطرحُ باعتبارها مؤشرًا على تخلف المجتمع العربي وتأزمه الفكري والإنساني، ودليلا على تأخره في سلّم الإنسانية، وتعمدُ بعض الأديبات إلى إرجاع قهر المرأة إلى عهد سحيقٍ من عمر الزمان ؛ فتاريخ المرأة في رأي مي زيادة “تاريخُ استشهادٍ طويل؛ فهي عبر العصور المختلفة ليست إلَّا حيوانُ لذة ومتاع السيِّد، وطفلة لاهية للعبث” (5). ورغم هذا فإنَّ خطابَ مي زيادة في سياق المُطالبةِ بالتحرر والكينونة النّسوية خطابٌ أُنثويٌ ناعمٌ يصف الرجل بالمُنعمِ والمُنصفِ والسيّدِ الكريمِ واهب الحريةِ والتحرر؛ ممَّا نعتقدُ أنَّهُ من مُوجباتِ المرحلة التاريخية التي عاشتها مي زيادة، على النَّقيضِ ممَّا نجدهُ في خطابِ كلٍّ من: نوال السعداوي وفدوى طوقان وعائشة عبدالرحمن، مع وجودِ فوارقٍ لاختلاف السمات الشخصية واختلافِ التّجربةِ الإنسانية حيثُ يوصفُ الرجلُ بأنّهُ نموذجٌ للسُّلطة القاهرة المُستلِبة. ناقدة من مصر ينشر الملف بالتعاون مع "الجديد" الشهرية الثقافية اللندنية والمقالات كاملة على الموقع الإلكتروني :: اقرأ أيضاً ذكورة وأنوثة: جدل الكتابة والمرأة والمجتمع والتغيير تأنيث الكتابة مفهوم التحرر النسوي على محك أصوليتين الاختلاف لا يعني الاستنقاص