×
محافظة حائل

سياحة حائل والأمانة تنفذان المبادرات العشر المشتركة.. قريباً

صورة الخبر

منذ أكثر من خمسة عشر عاماً أقرأ لصحافي عربي كبير في صحيفة عربية كبيرة. هو يكتب زاوية يومية فيها. في وسعي أن أقول، من دون خشية من المبالغة، أن تسعين في المئة من كتاباته في هذه الزاوية تتناول الشأن الفلسطيني. غير أن هذا الصحافي، ومنذ أكثر من خمسة عشر عاماً، لم يقدم لي، أنا قارئه، أي تحليل مقنع أو معلومة مفيدة أو شرح ذي منطق أو تفسير ذي صدقية. بالنسبة له لا يتعلق الأمر بشيء ملموس يحصل على أرض الواقع. القضية الفلسطينية ليست نزاعاً أو خلافاً أو حرباً أو احتلالاً. إنها فانتازيا خيالية لا نجد لها اسماً أو توصيفاً، هي شيء أشبه بحكاية خيالية تحكي عن أشباح وأساطير وكائنات خرافية كتلك التي تحدث عنها خورخي لويس بورخيس. هو يتكلم عن الفلسطينيين، ولكن ليس الفلسطينيين الذين نعرفهم ونرى وجوههم ونعرف أنهم من لحم ودم وبشر، وأنهم مثلنا يأكلون ويشربون ويريدون العيش كغيرهم من الناس، وأنهم يخطئون ويشتطون. وهو يتكلم عن الإسرائيليين، ولكن هؤلاء أيضاً لا يظهرون في هيئة البشر بل ككائنات عجيبة منفرة لا يمكن العقل البشري أن يتصورها. والنزاع بين الفلسطينيين والإسرائيليين ليس شيئاً مثل ذلك الذي حدث، ويحدث، بين الكثير من الشعوب والبلدان والكيانات والأقوام، بل هو أقرب إلى صراع أزلي رهيب بين قوى خيرة تعيش على كوكبنا الأرضي، هم الفلسطينيون، وقوى شريرة هبطت من كواكب أخرى، هم الإسرائيليون. ولأن القوام الرئيسي للحكاية مرسوم في قالب خرافي، فإن مجريات الأحداث تتخذ، بالطبع، طابعاً خرافياً. منذ أكثر من خمسة عشر عاماً وأنا أقرأ أن «إسرائيل تقتل يومياً ألوف الفلسطينيين». ليس هناك خطأ مطبعي: إسرائيل تقتل يومياً ألوف الفلسطينيين. ولو أجرينا عملية حسابية عن عدد القتلى خلال خمسة عشر عاماً فمن المفروض أن يكون كل السكان الفلسطينيين أبيدوا عن بكرة أبيهم. غير أن الصحافي العربي الكبير لا يشكل حالة شاذة، أو طريفة، في لوحة المهتمين بالشأن الفلسطيني والمدافعين عن الحق الفلسطيني. فالحال أن عدداً كبيراً من الكتاب والباحثين والصحافيين العرب، وإلى حد كبير المسلمين في شكل عام، يتخلى عن المبادئ الأولية للبحث والتقصي والكتابة وينحدر إلى المستويات الدنيا من النزعات الغريزية، العاطفية، الشعبوية، الرخيصة، حين يأتي إلى الحديث عن إسرائيل (وأحياناً كثيرة: اليهود في شكل عام). وبدلاً من الاعتماد على الوقائع والحقائق والأرقام والخلاصات البحثية، فإن هؤلاء يعمدون إلى استعمال لغة وصفية تزخر بالنعوت الجارحة والشتائم المقذعة والعبارات المهينة والجمل التي تحبل بالثقة الطنانة بالنفس والاستهانة الحمقاء بالآخر، الأمر الذي يُفقد ما يكتبونه أي قيمة معرفية. يمكن القول أنهم اجترحوا لغتين ومعيارين: لغة ومعياراً لإسرائيل ولغة ومعياراً للعالم كله. أي شيء يتعلق بإسرائيل يخضع، على أيديهم، إلى إعادة تدوير. تنتزع الحقائق وتزاح الأرقام وتهمش التفاصيل ويسربل كل شيء بثوب رتقت أجزاؤه بطريقة مضحكة مثيرة للسخرية. في خبر متعلق بالولايات المتحدة الأميركية، التي عادة ما توصف بأنها إمبريالية وأم الرذائل والشيطان الأكبر والإبليس الأخطر، نادراً ما يخرج هؤلاء عن طورهم، بل هم يلتزمون بأصول الكتابة والبحث ولو مصحوبة بقليل من الشتائم. ولكن في الخبر المتعلق بإسرائيل، على رغم أنها شيطان أصغر وإبليس أحمق وأوهن من بيت العنكبوت، فإن الكلام يأتي في صيغة أقرب إلى الهذيان والهلوسة والعبث والثرثرة. وهذا لسبب بسيط هو أن إسرائيل، بالنسبة لهؤلاء، جسم ميتافيزيقي. ليس هناك ما يمكن أن ينسب إلى إسرائيل في خانة الحقائق. فالجرائم لا توصف والقتلى بالألوف والحرائق في كل حدب وصوب. وبالطبع في إسرائيل ليس هناك بشر وليس ثمة فن أو مسرح أو رواية أو شعر أو موسيقى أو غناء أو صناعة أو تجارة أو زراعة أو تكنولوجيا. منذ تأسيس دولة إسرائيل وحتى لحظة كتابة هذه الأسطر، يجري يومياً، أكرر يومياً، ضخ ما لا يكاد يحصى من المقالات والكتابات والبحوث والبيانات والدراسات وحلقات البحث وورش العمل، فضلاً عن نشرات الأخبار والبرامج التلفزيونية والإذاعية والحوارات والنقاشات وعروض التوك شو بهدف واحد: تشنيع إسرائيل وإظهارها في هيئة وحش فظيع لا يرتوي من شرب دم الأطفال. هناك آلة عملاقة من الدعاية تنهض بها دول وحكومات وأحزاب وجماعات ومؤسسات ومنظمات، عربية وإسلامية ويسارية عالمية، لملاحقة هدف وحيد: إسرائيل. لقد أحيط النزاع الفلسطيني - الإسرائيلي بمقدار هائل من الغموض والسحر والمبالغة والكذب. وتربّت أجيال بكاملها على وعي شبه خرافي يستند إلى خليط شائك من الادعاءات والمقدمات الضخمة. ولقد أدى كل ذلك إلى تشكيل صورة جبارة وكاريكاتورية معاً عن إسرائيل تبدو فيها شيئاً لا يمكن العقل ولا الخيال أن يحيط به. فهي كل شيء ولا شيء في آن واحد. قوة عاتية تسيطر على العالم كله وقزم في الوقت عينه. إسرائيل، والحال هذه، جسم مطاط يمكن أن يتلبس كل شيء. ويمكن من شاء أن يقول ما شاء فيها من دون أن يتعرض للتشكيك أو النقد أو التفنيد. قل كل ما يمكن أن يخطر في بالك طالما أن الأمر يتعلق بإسرائيل. وسواء كان المرء باحثاً أو محققاً أو عالم اجتماع أو فناناً أو راقصاً أو سائق جرار أو عازف طبل، فإن في وسعه أن يتحدث عن إسرائيل ويحلل شؤوونها بثقة عالية بالنفس ومن دون أي حرج. هكذا، مثلاً، أمكن بروفيسور مثل إدوراد سعيد أن يكتب (في كتابه: إسرائيل، أميركا، العراق. دار الآداب، 2004): «الضفة الغربية تحت الاحتلال من قبل ألف دبابة إسرائيلية هدفها الوحيد إطلاق النار على المدنيين». (ص 193). «المدنيون الفلسطينيون لا يزيدون قيمة عن الجرذان فيقتلون بالآلاف من دون كلمة رحمة». (ص 195). وفي وسع «بروفيسور» جامعي آخر، يدرّس في جامعة أميركية ويلقب نفسه بـ «العربي الغاضب»، أن يقول وهو يرفع رأسه مزهواً بأنه حين جلس مع محاوره الإسرائيلي لم ينظر إليه بل أدار وجهه إلى الناحية الأخرى. وفي وسع المطرب المصري شعبولا أيضاً أن يدلي بدلوه ويعرض وجهة نظره الفلسفية في شأن إسرائيل. والقائمة لا تنتهي. وهناك كتاب وصحافيون مهمتهم الوحيدة في هذه الدنيا الفانية هي الكشف عن «عنجهية» «العدو الإسرائيلي» و «غطرسته» و «شراسته» وإلى ما هنالك من تعابير وأوصاف ليس لها أي معنى سياسي، بل هي عبارات لغوية معبأة بالشتيمة والاحتقان النفسي والذهني، على طريقة الشعر العربي القديم في الذم والافتخار. ليست غايتي من كتابة هذه السطور الدفاع عن إسرائيل أو إسباغ صورة ملائكية عليها. غايتي هي القول أنها دولة مثل كل دول العالم. ودول العالم، من دون أي استثناء، تعاني من أوجه قصور صارخة في سياساتها وسلوكياتها. وإذا كان لنا أن ندين إسرائل لأنها تحتل أراضي فلسطينية، وغير فلسطينية، فهي تشبه، في ذلك، تركيا مثلاً، التي تحتل أجزاء من أرمينيا وكردستان وبلاد السريان وقبرص وإسكندرون. وهي تشبه إيران التي تحتل بلوشستان وكردستان وعربستان (الأهواز). وهي تشبه الهند التي تحتل جزءاً من كشمير فيما تحتل الباكستان الجزء الآخر. وإذا كانت إسرائيل قتلت الفلسطينيين، فإن من قتلتهم، منذ قيامها عام 1948 حتى الآن، لا يشكلون نسبة تُذكر قياساً بمن قتلتهم الحكومة العراقية من الأكراد، أو من قتلتهم تركيا من الأرمن والسريان والأكراد، أو من قتلتهم إيران من العراقيين، أو من قتلتهم الحكومة السورية من السوريين في حماة وحلب وإدلب، بل من الفلسطينيين أنفسهم. لو أن الصحافي العربي الكبير تكرم وفسّر لي هذه الظواهر في زاويته اليومية، التي أتابعها منذ أكثر من خمسة عشر عاماً، فسيكون ذلك يوماً سعيداً لي ولن أعتبر قراءتي زاويته طوال هذه المدة وقتاً ضائعاً.     * كاتب كردي سوري