×
محافظة المدينة المنورة

الأمن الدبلوماسي يفتح باب القبول لحملة الثانوية

صورة الخبر

رواية أميمة الخميس الثالثة "زيارة سجى" (2013) حيرتني مثلما حيرت قراء آخرين، كما أظن، من خلال عنوانها، أولاً، والمحاولة المتواصلة التي قمت بها، ثانياً، والتي قام بها مثلما أتوقع قراء آخرون، لفهم هوية سجى ودوره في العمل الروائي. سيتبين بشيء من البحث أن سجى شخصية مستلة من لعبة "ويجا" أو "ويجي" المتصلة بدورها بحيلة يتبعها الروحانيون في أوروبا للتواصل مع عالم الأرواح، لكن السؤال الأهم ليس هنا وإنما في دور تلك الشخصية الغرائبية ومناسبة توظيفها. السؤال يفتح سؤال الغرائبي على السرد المعاصر بأكمله عربياً وعالمياً وكذلك على الفن والثقافة بشكل عام. لكني لن أدخل في تلك المجاهل هنا وإنما سأحصر ملاحظاتي حول رواية "زيارة سجى" فللتوسع أماكنه الأخرى. في البدء أقول بأن القضية المطروحة في عنوان هذه المقالة ليست السبب وراء الكتابة هنا، فقبل ذلك يأتي الإعجاب بالعمل والشعور بأهميته والحاجة للحوار معه. فالكتابة النقدية كما أفهمها فعل محبة للنص، وأنا ممن لا يكتبون إلا عن شعور بالإعجاب بما أكتب عنه، لكني أحاول قدر المستطاع ألا تكون المحبة أو الإعجاب حجاباً عن رؤية مشكلات العمل أو ما ينغص العلاقة به. العنوان هنا من أدلة الإعجاب بالعمل من حيث هو جاد في أطروحاته يتعمق المسائل ويصدر عن رؤية تستشرف قضايا حساسة تتصل بالإنسان والمجتمع والثقافة التي تولد من تفاعل الإنسان الفرد بالمجتمع. العلمنة التي أشير إليها تعني نقل الشيء أو المفهوم من المتعالي إلى الأرضي، جعله جزءاً من العالم، وهذا ما نسمعه بشكل خاص من هذا الصوت المدعو "سجى". قبل توضيح ذلك أقول بأن رواية أميمة الخميس تتمحور حول عدد من القضايا أهمها في تقديري الكبت الاجتماعي، التسلط الذي يمارسه المجتمع في كبح عواطف ورغبات الأفراد وإجبارهم على الانسياق ضمن تقاليد وأعراف متأصلة ويصعب مساءلتها. أهمية الرواية، مثل روايات أخرى صدرت في المملكة على مدى العشرين سنة الماضية على الأقل، تتصدى لتلك المساءلة بصراحة حينا وبتلعثم حيناً لكنها تتصدى لها بأقدار متفاوتة من التوفيق الفني. الجريمة التي تحدث أثناء لقاء اثنتين من الشخصيات الرئيسة، هند وسلطان، وهما من أبناء الطبقة الثرية في المجتمع السعودي، تربك الجميع وتهدد بفضح المكبوت والمسكوت عنه ومن ذلك علاقة العشق بين الشابين التي تشكل عصب الحكاية. كما أنها جريمة تسهم في إنجاح عملية السرد بربط القارئ حتى النهاية بسؤال: ماذا حدث؟ ومن المسؤول؟ ومما يسهم في إنجاح عملية السرد أيضاً التحدي المتواصل الذي يضطر القارئ لمواصلة الأسئلة عن هوية بعض الشخصيات الأخرى، ودلالة بعض التلميحات، فالكاتبة تكتفي في تلك الأمور الحساسة بالتلميح بعيداً عن التصريح فيحتشد الكلام الكثير بين السطور. من ناحية أخرى سيشعر بعض القراء المعتادين على القص التقليدي الذي يتوارى كاتبه ويهيمن عليه سارد عليم بكل شيء (وهو قص لا تقل قيمته بالضرورة لأنه تقليدي، فمعظم المنجز في تاريخ الرواية جاء تقليدياً)، أولئك القراء سيضيقون ذرعاً بوجود شخصية مبهمة مثل سجى وسيضيقون أكثر حين يبدأ هذا السجى في التحدث عن عملية السرد نفسها، عن كتابة الرواية، سواء هذه الرواية أوالسرد عموماً، وعن الكاتبة التي صنعته. سينزعج أولئك القراء أو يتململون على الأقل حين تبدأ الرواية تتحول إلى عملية انعكاس ذاتي شأن كثير من الأدب في مرحلة ما بعد الحداثة حين سقط ما يسمى الجدار الرابع في المسرح وبدأ الفن يتحدث عن الفن وشخصيات الرواية تذكر بأنها شخصيات ليس أكثر لنجد المؤلف نفسه شخصية أخرى. في "زيارة سجى" يحدث ذلك وبشكل سيستفز أي قارئ غير معتاد على هذه الحيل السردية. أول عمليات الانعكاس هي تتويه الحقيقة بين عدة أصوات تروي الأحداث كل من زاويته، ومع أن هذا ليس جديداً في تاريخ الأدب، فإنه اليوم حاضر بكثافة غير مسبوقة في الرواية بشكل خاص. لكن الأكثر إثارة هو أن سجى ليس مجرد شخصية أخرى، فهو أقرب إلى الراوي العليم الذي يبدو أن الكاتبة صعب عليها التخلص منه تماماً. فهو صوت أدرى من غيره بما يحدث، يراقب من علٍ ويحلل الشخوص والأحداث. نعم هو ليس عليماً تماماً، على الأقل فيما يقول، لكنه أعلم من غيره. ومما يلفت الانتباه بشكل خاص هو حديثه عن الكاتبة نفسها ممهداً بذلك لدخولها مسرح القص. وما يقوله متصل بعنوان مقالتي هذه، ففي موضع تالٍ من الرواية نسمعه يحلل وضع "البشر الفانين"، البشر الذين لا ينتمي إليهم بوصفه قادماً من عالم آخر. البشر، حسب سجى، يحبون في حكاياتهم توزيع أدوار الخير والشر ويجعلون الخير متفوقاً دائماً، كما يحدث في المسلسلات التي تشاهدها "ماما لولوة"، جدة العاشقة هند: "إنهم الفنانون الذين يختارون ما يلائم حبكة حكاياتهم، من شتات الذاكرة، ويعلبون الحقيقة ويقرطسونها بحيث تصبح جاهزة للتداول الأرضي ومن ثم ينسبونها جوراً لقوى الكون." الحكاية جزء من هذا العالم، يخترعها الكاتب أو المؤلف من الأحداث حوله، ولا شأن للإلهام أو لقوى خفية بتشكليها. تلك هي العلمنة التي أقصد. وهي علمنة يرسخها تعدد الأصوات الروائية ونسبنة الحقيقة، والمفارقة هي أن من يؤكد علمانية الحكاية هو نفسه صوت قادم من عوالم أخرى، عوالم روحانية غامضة! في "زيارة سجى" تتحفنا أميمة بالكثير لكني أعتقد أن العمل يغرق في النهاية بما يشبه التنظير حول كتابة الرواية ومشكلاتها، واستعراض لما تواجهه الكاتبة التي تحولت إلى شخصية تتأرجح بين الافتراضي والواقعي. وهذا وإن كان جزءا من عملية تجريب تندرج ضمن متغيرات الكتابة السردية المعاصرة، فإنه يزداد الى الحد الذي يكاد يغيب العملية السردية الممتعة التي عشناها مع سرد الشخصيات. كأن الكاتبة سعت لتبرير أو شرح تقنية سردية خشيت ألا يتقبلها القراء، وفي ظني أن كثيراً من القراء سيجد صعوبة في ذلك التقبل على الرغم من الشرح والتبرير، لاسيما أولئك الذين ليسوا على دراية كافية بمتغيرات الكتابة السردية والأبعاد الفلسفية الكامنة وراءها. فنسبية الحقيقة جزء من متغيرات تتجاوز الرواية إلى الفلسفة وهذه ليست بالميسورة الفهم دائماً. غير أن الرواية تحتفظ بفضيلة التحفيز للتعرف على تلك المتغيرات بما يغير من طريقة التناول والتفكير.