النظرة المريضة فكريا إلى الغرب هي في جوهرها أسطورية، وتلك علة تناقضها، إذ إنها تنظر للآخر وللأنا ولمساقات التاريخ بقدر غير قليل من التضخيم والانتفاخ، فضلا عن أن سلوكنا وحركاتنا اليومية ما زالت محكومة بوشائج مهترئة وملتبسة تشدنا إلى ماض أسطوري لم ننفض عنه غبار التبجيل. يورد مكتشف قارة اللاشعور سيغموند فرويد في كتابه "تفسير الأحلام" مزحة أطلق عليها مسمى دعابة الغلاية؛ مفادها أن رجلاً استعار من جاره غلاية، ليتهمه الأخير بإعادتها وقد لحق بها الضرر، وكي يدافع عن نفسه أكد الرجل في البداية أنه قد أعاد الغلاية دون أي ضرر، ثم قال بعدها إن الغلاية كانت مثقوبة حينما استعارها، وأخيراً قال إنه لم يستعر أي غلاية من جاره على الإطلاق. تلك الدفوعات الثلاثة التي أوردها الرجل قد تكون صالحة ومشروعة حينما يُذكر أي منها لوحدها، ولكن عندما تأتي تلك الدفوعات معاً فإنها تنفي بعضها بعضا، وقد استخدم فرويد تلك الدعابة للتدليل على الكيفية التي يتجاهل بها اللاشعور التناقض المنطقي. والحال أن موقفنا تجاه الثقافة الغربية شبيه تماماً بمنطق الغلاية، فأحياناً تجد اعترافاً صريحاً من قطاع واسع من شرائحنا الفكرية بأن الثقافة الغربية تعد راهناً المنتج الوحيد للثقافة في الوقت الذي تضطلع فيه الشعوب الأخرى بدور المستهلك متماهية مع علاقاتها الاستهلاكية بمنتجات الغرب المادية، بل لعل البعض يساجل بأن تلك الثقافة أضحت في ظل تشكل حضارة عالمية واحدة صالحة للتعميم ومتجاوزة طابعها القومي. وفي المقابل، وما لا يجوز نكرانه أيضا، أن هناك حذراً من الشرائح إياها تجاه الاعتراف بمفهوم الحضارة الإنسانية الواحدة، والذهاب أبعد من ذلك بالقول بإمكان قيام حضارات أخرى نواتها الصلبة ثقافات قومية أو دينية مكتفية بذاتها، متى ما قيّض لأبنائها رعايتها وحمايتها اشتد صلبها وغدت ذات قوة تتطلع إلى الخارج وتعمل عمل الحضارة. وهذا هو الباب نحو فهم إدمان الشرائح نفسها على صيغ مبتذلة وفاضحة في ميدان الأفكار مثل "الغزو الثقافي" و"الأمن الثقافي"، وحرص رهط منهم على أبلسة الثقافة الغربية والدعوة إلى القطيعة الحضارية مع الآخر، ومهاجمة مكتسبات الحداثة ذاتها كالتعليم الحديث، والإعلام المستقل والتشريعات القانونية وغيرها، فتلك في نظرهم المسارب التي ينفث من خلالها الغرب سمومه داخل ثنايا المجتمع ويفرض بها نظرته للحياة. تلك النظرة المريضة فكريا إلى الغرب هي في جوهرها أسطورية، وتلك علة تناقضها، إذ إنها تنظر للآخر وللأنا ولمساقات التاريخ بقدر غير قليل من التضخيم والانتفاخ، فضلا عن أن سلوكنا وحركاتنا اليومية ما زالت محكومة بوشائج مهترئة وملتبسة تشدنا إلى ماض أسطوري لم ننفض عنه غبار التبجيل. وفي هذه الأزمنة الداكنة نتبدى أمام رهان من طراز مصيري حول قدرة ثقافتنا على إنتاج سبل متعددة نتمكن خلالها من الاندماج في روح العصر، والبقاء، من ثم، في عالم محكوم بسرعة الانتقال من طور لآخر، قطعا هذا الأمر يتطلب قرارات جسورة وحكيمة.