ننتقل لقاعة أخرى في المعرض وهي قاعة "الواقعية اللاموضوعية" ونستطيع تتبع ذلك المصطلح بقليل من العودة لكتابات السيرياليين وخاصة رمسيس يونان حيث نلمح مصادر تشُكل ذلك المصطلح، فالبرجوع إلى كتاب رمسيس يونان "غاية الرسام المعاصر" (نشر ضمن مطبوعات جماعة الدعاية الفنية، العدد الثاني 1938ص 51، ص52)، نجده يقول : "بين الرسامين السيريالين طائفة توجه كل جهودها إلى الجمع بين المتناقض الغريب من الأشياء، ثم إلى إحاطتها بوسط لا يمت لها بصلة. وفن هذه الطائفة عرضة لأن ينحدر إلى فن متكلف مصطنع فيه من براعة العقل الواعي ومهارته أكثر مما فيه من خيالات العقل الباطن ونزواته (يقصد هنا ما قدمه ماجريت ودالي) وثمة طائفة أخرى تعالج ما يسمى بالرسم الأتوماتيكي. وهنا يحاول الرسام أن يجرد نفسه من رقابة عقله الواعي لتنساب خيالات عقله الباطن عفواً وارتجالاً. وقد ننتقد هذا النوع من الفن أن فيه إثارة وإقلاقاً، وليس فيه دواء أو علاج. ولكن يجب أن نذكر أن مدرسة السيرياليزم هي في صميمها دعوة لثورة اجتماعية أخلاقية قبل أن تكون مذهباً فنياً. وهناك أخيراً طائفة ثالثة تحترم التصميم والإنشاء وتجد في السيرياليزم معنى قريباً من "الرياليزم الذاتي " أو مذهب الحقيقة النفسية وفي رأينا أن هذه الطائفة تبشر بالإيناع والإثمار ." وهنا يطرح يونان الطائفة الأخيرة التى وجد فيها الشكل المرجو لدى السيرياليين المصريين في طرحها لواقعية من نوع آخر وهي الواقعية النفسية التي تتخذ من الرموز لا الموضوعات وسائطَ لها. ولعل هذا ما قصده فؤاد كامل واصفاً تجربة معرض "الأعمال الأتوماتية" 1947 لرمسيس يونان حين قال عنها: "احتشد فيها الخلق التلقائي الذي يتعدى الواقع المحجوب، إلى أعمق أعماق الإنسان التي تنطق بالرموز المغلقة". الخلاصة في مقصد السيرياليين هو أن تكون واقعيا بالنسبة لنفسك، أن تقدم واقعك الذاتي. من هنا لجأ السيرياليون ــ كما يذكر كل من سام بردويل وتيل فيلراث في كتابهما حول المعرض ص 121 ــ إلى رسم الكتابات القديمة والتعاويذ السحرية ومخلوقات الأساطير الخرافية والرموز المصرية القديمة والقبطية لخلق نمطهم السيريالي الخاص المتفق عليه ممارسين طقوسهم الخاصة وتأملاتهم الصوفية في محترفاتهم بحي المماليك فى القاهرة بغية تحقيق الكتابة والرسم التلقائيين. هذه "الميثولوجية الجماعية" كما وصفها يونان والتي لم تكن إلا تعبيرا عن مسؤولية الفنان تجاه مجتمعه. وفي هذ السياق نذكر وصف لويس عوض في مقال له بالأهرام 20/12/ 1966 "الحياة البوهيمية" التي نجح السيرياليون المصريون في أن يغرسوها في قلب المدينة قائلاً "وكان عالمهم مملوكياً ورثوا فيه غباراً من عهد المماليك ولكن ليس فيه أحد من أشباح أولئك الفرسان ... كانوا يقضون نهارهم مع مصر المملوكية، فإذا جُن الليل قضوها فى قصر النيل وسليمان باشا، وهكذا جمعوا بين المشربيات والستائر الفينيسية، وبين قنديل الزيت وأنوار النيون والفلوروسنت". "إنهم وهم الغرباء بثقافتهم الكوزموبوليتية في المدينة القديمة وبأحوالهم الاجتماعية في الأوساط الراقية لم يبق لهم إلا أن يصوغوا ـ بفنهم ـ هوية تسمح لهم باقتحام كل الأبواب .. ألان روسيلون " . تلك الهوية المصرية للسيريالية التي كرسها كامل التلمساني قائلاً : "هل رأيت يا سيدي عروس المولد الحلاوة ذات الأيدي الأربع؟ هل رأيت عرائس القراقوز الصغيرة؟ وهل سمعت قصة أم الشعور والشاطر حسن وغيرها من الأدب الشعبي المحلي؟ كل ذلك يا سيدي سيرياليزم. هل رأيت المتحف القبطي؟ كثير من الفن الفرعوني سيرياليزم .. إننا لا نقلد المدارس الأجنبية بل خلق فناً نشأ من تربة هذه البلاد السمراء." ونستدل من أعمال المعرض على هذا المفهوم من خلال لوحة رمسيس يونان التي تمثل امرأة في مشهد طبيعي وقد اتخذ جسدها وضعية "نوت" إلهة السماء في المعتقد المصري القديم، وقد اتكأت على ظلال واهية ويتعلق ببدنها أشلاء من نساء شُعث بينما تبدو ثلاثة اشباح بعيدة تتجه للأفق. ونوت هنا تبدو كأنها رمز لمصر محاطة بوضع مأسوي. وقد تكرر هذا الرمز أيضا في عملين معروضين لرولاند بينروز الأول بعنوان "مصر"، والثاني بعنوان "لي كالإلهة نوت"، بينما نجد استحضارا للرمز الشعبي في أعمال ماهر رائف وحامد ندا اللذين ضمهما هذا المحور في المعرض . د. أمل نصر ـ أستاذ ورئيس قسم التصوير ـ كلية الفنون الجميلة ـ جامعة الإسكندرية