فضيلة الأرض أنها الوحي الأبدي الذي لا يتراجع أمام زحف الحضارات وغيها، ولا يسقط أمام استعمار شاشات البلازما وهمجية مساحيق التجميل، والحفيون بها كذلك لا يتراجعون؛ بل يزيدون اشتعالاً واشتغالاً بها كلما تقادم العمر، وتضخم ألبوم الذكريات، وها أنا والله في كل مكان أكاد أن أميز أهل القرى عن غيرهم، وأن أعدهم واحداً واحداً وراعياً راعياً وأحمد أحمد؛ مهما تقمصوا من أدوار مؤقتة، ومهما ارتدوا من ملامح مفروضة تمليها ( امدونة).. حينما تسمعون أهل القرى السرويون وهم ينشدون معلقات التصابي والهيام ( بي عنك، وأخذت ضيمك، والله لا يبغيني دروجك ) فلا تظنوا أن هذه مصطلحات لغوية عادية في السراة العسيرية بل هي ممالك وأوطان مستقلة وراسخة العمق داخل اللغة لمن يستسلم لخمرها ودوختها الحلوة. إنه جزء من وحي الأرض، وكل أرض لا بد أن تشبه أهلها ويشبهونها في القول وفي الغناء، والفرق الوحيد أن هناك من يتخلى وهناك من يمسك بتلابيبها حتى تمشي معه وبه بكامل الانتشاء واللذة، ولذلك سيبقى العشب الأخضر ندياً تحت أظافر الفلاحين حتى لو عاشوا في مدينة، وسيبقى التراب في معاطف البدو حتى لو ركبوا أغلى اليخوت، و ستبقى رائحة البليلة والفول وبخور الجاوي في أنفاس أهل الحضر ولو تطاولوا في البنيان هنا وهناك، وما أروع شيم الناس حينما تتصالح مع أرضهم وما استوحوه منها من قيم!! قبل أن يُذوِّب السروي/ القروي أحمد عسيري أوراق النعناع والوزاب في أكواب الكلمات يتلفت حوله بشغف، ويكاد لولا الملامة أن يعيدهما سيرتهما الأولى، وأن يضعهما في جيبه الأعلى كما جرت بذلك سيرة العطر كابراً عن كابر، وحينما يذهب إلى سوق الثلوث الذي كان وغاب؛ لا بد أن يُسلّم على كل المارة، وأن يضرب معهم موعداً تحت عرعرة، وأن يعدهم بالنزول عما قريب إلى عقبة ضلع أو محايل عسير، والسبب لأنه الرجل الوحيد في تلك النواحي الذي يأسره الدفء ودخان الموافي وأهلها، ولا يطيق صبراً على الركود البارد.. فمن أين نبدأ يا عم أحمد؟ من دخان تلك الموافي وزمانها المُحنى والمُعنى؟ أم من مواكب الشيح والريحان والتفاح السروي الأخضر؟ أم من عند أولئك الرجال الذين يقلبون أحزانهم فرحاً وابتسامات لا تغيب؟ كلها تمشي معك، وكلها على علاقة واضحة بحياتك؛ أما تليفزيون أبها وناديها وجمعيتها الثقافية فهي أوج الرسمية الفجة والتجاذبات المملة؛ جمال أحمد عسيري إنه يدعمك حينما تكتب، ويراسلك حينما تغيب، ويشيد بك حينما يحضر كل الرفاق إلا أنت، ولو لم يكن من ريادة هذا السروي المبارك إلا هذه لكفته، ولميزته عن عصور الاختلال وأهلها.. جيلي يناكف بعضه يا عم أحمد، و لكننا نحب بعضنا مهما اختلفنا؛ فمرة نقول إن أدب أبها داخل حزامها، ومرة نقول إن أدبها خارج الحزام، وفي كليهما حب وخير وجمال.. أفلا يكفي هذه المدينة الحالمة أننا نختصم على حبها وعلى من تدللهم أكثر؟! في أحيان كثيرة نغفل عن مفاتيح هذه (الأبها ) وننسى أننا من ينصح الزائرين حينما يريدون مسرحاً عسيرياً باذخاً في كل التفاصيل أن يبحثوا عن يحيى العلكمي، وإن أرادوا كلمات مجنونة لا تعترف بالسقوف الحمراء، والنيات المفخخة أن يفتشوا عن بندر خليل، وإن أرادوا باحثاً تاريخياً جاداً يرفع الغبار عن اللآلئ ندلهم على بيت علي قطب وشقيقه الأبهة إبراهيم الذي خسرته صحيفة أبها.. أما جيلكم فما زلنا نراه متصالحاً نورة فوق سطحة بيته دائماً.. جزآن لا يفترقان أحمد عسيري وأبها، وبإمكانك أن تكتب عنهما بنفس الشغف، وبنفس البوح الداخلي الآمن، ولذلك لن تغادرنا المدينة ولن يغادرنا أحمد..