قضى سيّاح وعشّاق حياة صرعى وجرحى فيما كانوا ينشدون الفرح في إسطنبول، ويتطلعون لبريق أمل يلوح في أفق العام الجديد الذي لوّن أولى لحظاته بالدم. ولم يشفع للضحايا أنّ الموت الجبان اختطف أرواحهم، بعدما قرّر إرهابيّ الانقضاض على الغبطة، باعتبارها كفراً، وإفساد الاجتماع البشري البهيج، بوصفه رجساً من عمل الشيطان، بل راح، كالعادة، من يقرّر حرمان الضحايا من صفة «شهداء»، لأنهم مجرد قتلى قضوا في ملهى ليلي يقدّم الكحول، وتتجمع فيه النساء العاريات، مع أنّ بعض الضحايا والجرحى كانوا برفقة زوجاتهم. مضى محترفو القتل المعنوي يوزعّون شهادات الفضيلة والرذيلة، من دون إحساس بألم الفقدان، في اللحظة التي كان العالم يمنّي النفس بنهار جديد في عام جديد خالٍ من أصوات الرصاص. لكنّ الأمنيات الضريرة ذهبت أدراج الغبار ودخان القنابل. سدنة الموت، الذين لا يريدون التهليل للجريمة مباشرة، راحوا مراوغة يعلنون شماتتهم بالموتى، وكشفوا بسلوكهم هذا (وهو غير جديد بالمناسبة) أنهم الظهير الأيديولوجي لـ «داعش» وجماعات الإرهاب. ولعلهم في قرارة أنفسهم يُحيّيون أفراد «داعش» ويقولون لهم: سلمت أياديكم الضاغطة على الزناد، فهذا مصير مخالفي قوانين الشريعة، وناشري الفحش والرذيلة. وقد علق أحد النشطاء الساخرين، عبر تسجيل صوتيّ على مواقع التواصل الاجتماعي، بأنّ من قتل المحتفلين في إسطنبول كان يحتجّ على من يُجالس النساء، ويعاقر الخمر، ويستمتع باللذات. وهو إذ ينكر على الناس هذه المتع، فإنه يقتلهم طمعاً في حياة أخرى يتطلّع لأن يعيش فيها أجواءً أكثـــر إمتاعاً وترفيهاً من تلك التي يحرّمها على أهل الدنيا التي قدّمها وكرّسها العــقل الديــني المستريب باعتبارها «جنة الكافر ونار المؤمن». ومن هذا النبع الفقهيّ ينهل فكر «داعش» وجماعات الموت، فهؤلاء يتحركون بغطاء شرعي يوفر لهم الحصانة والمناعة والقبول. بمعنى أنّ المجرمين، بأفعالهم المتوحشة تلك، إنما يصدرون عن ضرورات دينية، وفي سبيل ذلك تختفي وتزول المحظورات، حيث لا محظورات! وبقوّة هذا الزعم بالتفويض الإلهي، يرى العقل المتوحش نفسَه مخولاً منع الفساد في الأرض بالقوة، تطبيقاً لـ «مَن رأى منكم منكراً فليغيْره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، وإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان». و «داعش» انتقل من المرحلتين الثانية والثالثة، إلى مرحلة التمكين التي تؤهله لتغيير ما يراه منكراً بيده وأسلحته ومتفجراته وتوحشه، باعتباره يمثل الضمير الدينيّ، ويصدر عن أحكام «دولة الخلافة». أما القبول الذي يلقاه «داعش» من الدهماء الذين لا يُستهان بكثرتهم التي تتناسل كالفطر البريّ، فيتمثل في الرضا العاطفيّ، والتقبّل الوجداني، وربما العقلي أيضاً، وهذا يجعل «محاربة الإرهاب» عـــملية صعبة ومعقدة، وربما لا تحقــق نتـــائج حاسمة لا في المدى القصير، ولا البـــعيد. فاستئصال الذهنية التي تتماهى مع الشر وتتواطأ معه أمر له جذوره السحيقة في قيعان اللاوعي الجماعي، ما يعني ضرورة تنقيح الذاكرة من رواسب العنف الكثيفة التي تنـــظر إلى الحياة باعتبارها ممراً نحو مستقرّ نهائيّ وخلّبيّ تغمره المحفّزات الحسية التي جعلها المخيال الديني ملاذاً سرمدياً يستحق أن يرتكب «البشر» من أجل الانضمام إليه، الفظاعات والشرور، وما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر ببال، من التوحش والهمجية. ثمة من يحلم بالقضاء على الإرهاب، عبر شنّ غارات جوية، أو مطاردة مسلحين، أو التدقيق الأمني، وهذه تبسيطية مسرفة في عبثيتها، لأنها لا تقرّ بأن الإرهاب لا أرض له أو وطن، بل هو فكرة تنتشر كالوباء، وتفتك بالبشر كلما ضعفت مناعتهم، أو تصدّعت حصونهم الروحية. وتضمر عبارة «تجفيف منابع الإرهاب» تصوراً عن كونه مستنقعاً آسناً مكتظاً بالحشرات القاتلة والبعوض السامّ الذي يهاجم البشر ويتغلغل في أجسادهم ويفتك بها. وهذا على فظاعته أهون البلاء، لأنّ الأشدّ الأنكى هو تلك العدوى التي تتغلغل في العظام وتضعفها في شكل بطيء جداً، فيبدو المصابون للوهلة الأولى أسوياء، لكنهم مرضى يرتدون ثياب العافية، فيقرّرون من يستحق الموت ومن يستحق الحياة، كما يقفون على خط العقاب والثواب، فيقولون عن هذا «قتيل» ويصرفون للآخر لقب «شهيد»، تسعفهم النصوص، وتسير في رِكابهم، وتحيطهم بالعناية والرعاية، وتحرس ليلهم الطويل... الطويل! * كاتب وأكاديمي أردني