يرسم الاعتداء الأخير الذي شهدته مدينة إسطنبول ليلة رأس السنة في ملهى ليلي انعطافة جديدة في العلاقة بين تركيا وتنظيم «داعش» الإرهابي من جهة، وبالإدارة الأميركية المقبلة من جهة أخرى. ذاك أن اختيار الهدف هذه المرة، وإعلان التنظيم مسؤوليته سريعاً عن الحادثة، يسجلان ذروة في سياق الاستهدافات السابقة (وقد ناهزت 30 اعتداء ارهابياً في عام ونيف)، ويدفعان بالمواجهة المتذبذبة الى حد الحرب المعلنة، بما يقطع نهائياً الهدنة غير المعلنة بين الطرفين. فالملهى الذي شهد المقتلة ليس أي معلم سياحي متاح للعامة، كمثل ساحة تقسيم في وسط المدينة أو ساحة السلطان أحمد التاريخية، أو غيرهما من المواقع السياحية الشعبية والمفتوحة التي نالت حصتها أيضاً من الإرهاب. إنه مكان حصري جداً، ونخبوي يرتاده المشاهير والأغنياء من الأتراك، بالإضافة إلى السياح الراغبين في اختبار نمط ليلي خاص. وبذلك، فإن في استهداف مكان من هذا الطراز وتنفيذ العملية بتلك الاحترافية والبرود، ثم فرار المنفذ وبقائه طليقاً بعد نحو أسبوع، رسالة واضحة: لا بقعة آمنة أو محصنة أمام التخطيط المحكم، وثمة نمط حياة كامل بات مهدداً في تركيا. نمط حياة لا يقتصر فقط على الناحية الاجتماعية لشرائح راغبة في ارتياد الملاهي الليلية وهي أكثر من أن تحصى، وإنما لنمط يطاول قبل كل شيء فئة رجال الأعمال والمستثمرين من محليين وأجانب وما يعنيه ذلك من ضربة للاقتصاد وعموده الفقري، أي قطاع السياحة. ولكن، إذا كان الانتعاش الاقتصادي رهينة الأمن والخيارات السياسية «القابلة للإصلاح» بقرارات من رأس الهرم، وتراجع عن «أخطاء كثيرة» على ما قال رئيس الوزراء بن علي يلدريم في وصفه تعامل بلاده مع الأزمة في سورية، يبقى أن القاعدة الشعبية تتسع يومياً لمزيد من التشدد والشعبوية والمغالاة، متغذية من تضافر هويتين قومية ودينية في أقصى لحظات صعودهما، ومن هامش تسامح واسع تم استغلاله في السنوات القليلة الماضية. أما على المسار الآخر، ذلك المرتبط بالعلاقة مع الولايات المتحدة، فهي تشهد تصفية حسابات واضحة مع إدارة الرئيس المغادر باراك أوباما، من دون أن تمهد بالضرورة لعلاقة صلبة مع الإدارة المقبلة، وإنما هي تمنيات بتلبية عدد من الطلبات التي أدارت لها واشنطن ظهرها في السابق، وأولها تسليم الداعية فتح الله غولن المقيم في كاليفورنيا والمتهم بالتخطيط للانقلاب الفاشل في 15 تموز (يوليو) الفائت، ووقف الدعم مالاً وسلاحاً وتدريباً للأكراد. وذلك على ما ترى أوساط مقربة من الحزب الحاكم، «انتقام» من عدم مشاركة تركيا في «الحرب على الإرهاب» في 2014، وثمن خوضها تلك المعركة منفردة في وقت لاحق. ارهاب يشمل الأكراد بالعرف المحلي، تماماً كما يشمل التنظيمات الإسلامية المتشددة. وفي دفع للخطاب المعادي لأميركا خطوة أبعد، كان لافتاً مثلاً متابعة ردود الفعل الأولية على حادثة الاعتداء الأخيرة، حيث سارعت اوساط رسمية وشبه رسمية الى توجيه أصابع الاتهام تلقائياً الى «أجهزة استخبارات اجنبية» وتعني بها الولايات المتحدة. وقطع صاحب الملهى نفسه الشك باليقين حين صرح إلى الصحافة بأن «واشنطن حذرت مواطنيها من عدم ارتياد المكان لإمكان تعرضه لاعتداء ارهابي»، معتبراً أنها كانت على علم مسبق بالأمر، وجازماً بأن الـ «سي أي اي وراء الحادث». وذلك على ما بات معلوماً دأب السلطات التركية منذ الانقلاب الفاشل في 15 تموز الفائت، بحيث لم تسلم واشنطن حتى من تهمة تدبير اغتيال السفير الروسي الشهر الماضي. ولكن أخيراً بدأت اصوات تخرج الى العلن وترى في الثغرات الأمنية المتزايدة، سواء في الحراسات الشخصية او في أمن المرافق الحكومية والخاصة، نتيجة طبيعية ومتوقعة لحملة «التطهير» الشاملة التي طاولت الأجهزة العدلية والقضائية والأمنية غداة الانقلاب الفاشل. فقد تم ملء المناصب الشاغرة في مواقع القيادة وعددها بالمئات على امتداد البلد، بأشخاص لم يكتسبوا بعد خبرات كافية في محاربة الإرهاب، أو قليلي الكفاءة أصلاً، أو يافعين متعاطفين مع الخطاب المتشدد ومتأثرين بما يجري في سورية، على غرار منفذ عملية اغتيال السفير الروسي. وهؤلاء، ليسوا فقط الأخطر، وإنما الأكثر عدداً والأصعب في تقفي أثرهم واكتشافهم. فالعدد الرسمي المعلن عن منتمين إلى «داعش» من الشبان الأتراك هو 1500 فيما تشير ارقام غير رسمية الى نحو 3 آلاف. لكن يبدو أن أحداً لم يرغب في مواجهة ذلك الوحش الكامن، واكتفى الخطاب العام بإلقاء اللوم على الخارج وتحويل الانقلابيين الى شماعة تحتمل كل التهم... الى أن بلغت النار عمق الدار. وبين التصدي لنظريات مؤامرة غير مؤكدة، وترتيب شؤون البيت الداخلية، وحروب متعددة الأطراف تخوضها تركيا داخلياً وخارجياً، لا سيـــــما مع جــبهة جديدة مفتوحة الآن مع «داعش»، لا يزال التخبط سيد الموقف. فحالة الاستقطاب السياسي والاجتماعي غير مسبوقة، والهوة تتــسع يومياً بين أطياف الشعب وتطلعاته، في وقت ينفك أصدقاء تركيا في المجتمع الدولي عنها في شكل مطرد. وعليه تعلق الآمال على بوتين روسيا وترامب أميركا لصياغة العلاقة المستقبلية على المستويين السياسي والأمني... مقابل تغيير نظام شامل ينقل البلاد الى عهد رئاسي ويقطع مع الأتاتوركية جملة وتفصيلاً.