مدينة الناصرة، أو كما تعرف بـ«عروس الجليل»، إحدى أكبر مدن فلسطين وأجملها، تقف بطلتها الساحرة بين منطقة مرج ابن عامر السهلية، ومنطقة الجليل الأعلى الجبلية، تكسوها الأشجار الحرجية، فيما تلتف من حولها أشجار العنب والرمان. ولهذه المدينة مكانة عظيمة لدى المسلمين والمسيحيين، استمدتها من تاريخها العريق، فهي مدينة السيد المسيح عليه السلام ومريم العذراء، وفيها بشر جبرائيل مريم بميلاد المسيح، وفيها قضى 30 عاماً من عمره، ومن أهم معالمها كنيسة البشارة، التي تعد ثالث أهم مكان مقدس للديانة المـسيحية، وفيها الجامع الأبيض الذي بناه علي باشا، مساعد سليمان باشا، الذي كان والي عكا عام 1812م. ولاتزال هذه المدينة عامرة بسكانها الفلسطينيين، رغم تعرضها لموجة تهجير قاسية خلال النكبة الفلسطينية عام 1948، إذ هجر العديد من سكانها قسراً إلى قرى ومدن أخرى، ومنهم من قاوم وبقي في أرضه رافضاً الخروج منها، ليكون ثمن ذلك القبول بالمواطنة «الإسرائيلية»، حتى يبقى في أرضه لا يفارقها أبداً. خنق سكاني على الرغم من ذلك، فإن الفلسطينيين بالناصرة مهجرون في وطنهم، يواجهون ممارسات مريرة أقسى آلاف مرات من النكبة، فالاحتلال يتبع ضدهم سياسة «الخنق»، ومصادرة الأراضي، إذ استولى على مساحة كبيرة من أراضي الناصرة، لإقامة مدينة لليهود الغاصبين، هي مستوطنة «نتسيرت عيليت». تقول النائبة العربية في الكنيست الإسرائيلي، حنين زعبي، من حزب التجمع الوطني الديمقراطي، في الأراضي الفلسطينية المحتلة 48، لـ«الإمارات اليوم»، إن «الحديث اليوم في الناصرة يدور عن مدينتين في مدينة واحدة: الأولى هي مدينة الناصرة التاريخية الفلسطينية الأصل، والمدينة الأخرى هي (نتسيرت عيليت)، التي تعني الناصرة العليا، والتي أقيمت على أراضٍ مصادرة من مدينة الناصرة، من أجل محاربة تطور المدينة الفلسطينية». وتضيف: «نحن العرب في الناصرة نتداول اسم المدينة اليهودية (نتسيرت عيليت)، ولا نطلق عليها الاسم العربي وهو الناصرة العليا، لأن هذه المستوطنة جزء من مخطط تهويدي، يهدف إلى محاصرة المدينة العربية». وتعد البلدة التاريخية في الناصرة، بحسب زعبي، من أكبر مدن الداخل الفلسطيني المحتل، إذ يسكنها 74 ألف نسمة، أما مستوطنة «نتسيرت عيليت»، فتقام على أجزاء كبيرة من الناصرة، وترتكز على مساحة تبلغ ثلاثة أضعاف مساحة الناصرة العربية، وذلك بفعل سياسة المصادرة التي تتبعها دولة الاحتلال، فيما يبلغ عدد سكانها أقل من نصف سكان الناصرة، إذ لا يزيد عددهم على 34 ألف نسمة. وتقول النائبة العربية، وهي من سكان الناصرة، إن «التركز السكاني للعرب هو في مدينة الناصرة العربية، وأوضاع هؤلاء سيئة، إذ إن الاحتلال لا يبني لهم في المدينة أي مراكز أو مدارس أو حضانات أو مرافق». وتوضح أن عملية التهويد في الناصرة تسير بصورة أخطبوطية، لمنع التواصل الجغرافي بين الناصرة، والمدن والقرى المحيطة بها، وذلك خوفاً من تحول الناصرة إلى مركز مدني، يهدد وجود المدينة اليهودية فيها. ومن القرى التي تعاني جراء سياسة الخنق والمصادرة، بلدة «عين ماهل»، الواقعة بالمنطقة الشمالية الشرقية من الناصرة، إذ تتعرض لمخطط صهيوني لإقامة أكبر تجمع يهودي في الجليل، اسمه «هاريونا – د»، ويضم 6000 وحدة سكنية، لإسكان 50 ألف مستوطن من اليهود المتدينين (الحيرديم). مصادرة ولا تكتفي إسرائيل بمصادرة الأراضي، وإقامة المستوطنات والتجمعات اليهودية بالناصرة، بل تتبع أساليب أخرى لمصادرة مزيد من الأرض، تحت ذريعة التطوير ومحاربة التلوث البيئي، إذ تواجه قرى «المشهد» و«كفر كنا» و«طرعان» بالناصرة، خطر مصادرة أراضيها، وذلك بسبب مشروع خط الغاز، الذي سيصل المنطقة الصناعية «تسيبوريت»، التابعة لبلدية مستوطنة «نتسيريت عيليت» بخط الغاز القُطري، عابراً تحت أراضي القرى الثلاث. وتقع قرى «المشهد» و«كفر كنا» و«طرعان» و«عين ماهل» على جبل سيخ بالناصرة، وكان الاحتلال الإسرائيلي قد صادر جزءاً كبيراً منها لصالح إقامة مستوطنة نتسيرت عيليت. وعن ذلك يقول النائب العربي في الكنيست، جمال زحالقة، لـ«الإمارات اليوم»، إن «إسرائيل تدعيأن المشروع لا يتطلع إلى مصادرة للأراضي وهذا غير صحيح، فهناك مصادرة فعلية لمحطات توزيع الغاز بالقرب من المشهد وطرعان، والقيود على استعمال الأراضي ومنع البناء ومنع زرع الأشجار نوع من المصادرة، فنحن لسنا ضد الهواء النقي ولسنا ضد خط الغاز، نحن ضد المصادرة». ويضيف: «الأغلبية الساحقة من القرى العربية في الناصرة صودرت أراضيها بذريعة التطوير، وكل مصادرة جديدة تستهدف ما تبقى لنا من أرض، وإذا أضفنا هذه المصادرة إلى المصادرات القديمة، فإنها تسهم بشكل كبير في خنق القرى العربية». ويوضح زحالقة أن الخط يتعمد المرور من خلال القرى العربية، كسور تحت الأرض لأسباب سياسية، لوضع حد لتطور القرى العربية، لا يمكن تجاوزه. ويستطرد: إن الاحتلال بموجب هذا المشروع، يمنع السكان من إقامة أي شيء متعلق بالأرض حول الخط، إذ يمنعهم من البناء أو إقامة البنى التحتية، أو حتى زراعة الأشجار وإقامة مخازن زراعية، كما يفرض على السكان الابتعاد مسافة ارتدادية لأكثر من 80 متراً. حرمان معاناة سكان الناصرة الفلسطينية لا تتوقف عند حد مصادرة الأراضي، بل تنتقل إلى محاربتهم في كل مكان، وحرمانهم حقوقهم العامة، وعدم استيعابهم في الخدمات العامة والوظائف الحكومية والقطاع الخاص، إذ يبلغ عرب الناصرة الذين يعملون في القطاع الخاص 1%، من إجمالي السكان العرب، وذلك بحسب زعبي. وتشير زعبي إلى أن «جميع المصانع الإسرائيلية لها فروع في (نتسيرت عيليت)، وتستوعب الأيدي العاملة من سكان المدينة اليهودية، كما أن جميع الدوائر الحكومية تفتح مكاتب لها في المدينة اليهودية، وليس في الناصرة العربية، بهدف تحويلها إلى مدينة غير متطورة تنعدم فيها كل مظاهر التطور، وتكون نتسيرت عيليت هي مركز الجليل». وتضيف: «يتبع الاحتلال قانون الخدمة العسكرية، كشرط لعمل العرب في أي وظيفة، حتى لو أراد العمل بائعاً أو نادلاً في المطاعم الإسرائيلية، كما أن العرب الذين يتم قبولهم للعمل في الوظائف الحكومية أو القطاع الخاص، لا يسلمون من مظاهر العداء والعنصرية». وتوضح أن نسبة العرب، في الوظائف الحكومية بالناصرة، تصل إلى ما يقارب 8.5% من عدد السكان العرب، إذ إن جميع الدوائر الحكومية تفضل اليهودي على العربي، مشيرة إلى وجود وزارات رصيدها صفر من الموظفين العرب، من سكان الناصرة. «الإمارات اليوم» التقت إحدى الضحايا العرب، الذين حرمهم الاحتلال حقهم في الوظيفة، وهي الشاعرة والناشطة دارين طاطور، الحاصلة على شهادة البكالوريوس في هندسة الكمبيوتر. تقول دارين، من سكان قرية الرينة بالناصرة، معلقة: «نواجه نحن العرب سكان الناصرة مشكلات كثيرة في إيجاد فرص للعمل بجميع المجالات، وأنا واحدة من الآلاف الذين حرموا الوظائف الحكومية، لأن الدوائر والوزارات تشترط علينا الخدمة المدنية أو العسكرية، حتى نحصل على الوظيفة، ونحن نرفض أن نكون جنوداً في صفوف جيش يقتل أهلنا الفلسطينيين في غزة والضفة، وفي كل مكان بأرض فلسطين». ولم تقتصر شروط الاحتلال على دارين بإلزامها بالخدمة العسكرية أو المدنية مقابل الحصول على العمل، لتطال حريتها الشخصية، ومشاعرها الدينية، حيث عرض عليها خلع الحجاب مقابل العمل، فيما اعتقلتها القوات الإسرائيلية بتهمة التحريض، جراء نشرها قصيدة كتبتها عن وطنها فلسطين، لتفرض محكمة الصلح الإسرائيلية، في شهر يوليو الماضي، عليها غرامة مالية، والإقامة الجبرية المنزلية في بيت عائلتها، في قرية الرينة بالناصرة. وتقول طاطور: «إن التحقيق معي، ومجريات المحاكمة، كانت مهزلة تفضح أيّ نظام يدّعي الديمقراطية، ففي البداية سُجنت لمدّة ثلاثة أشهر، ونقلوني خلالها بين ثلاثة سجون: الجلمة وهشارون، والدامون، وبعدها فرضت المحكمة بحقي الاعتقال المنزلي عملياً، ولا يسمح لي بالخروج سوى ست ساعات في الأسبوع، كما وضعوا في رجلي حلقة إلكترونية لرصد تحركاتي». وتعد الملاحقات السياسية والاعتقالات وتقييد حرية التعبير، بحسب دارين، من أعراض الأزمة التي تعانيها إسرائيل. فكلما زادت قواتها من القمع، وصعدت حملات التحريض ضد الفلسطينيين، كلما كان هذا تعبيراً أوضح عن حالة الضعف وقلّة الحيلة لديها.