صُدم العالم بالعملية النوعية بنادي رينا بإسطنبول. مجزرة خلّفت عشرات القتلى والجرحى من جنسياتٍ مختلفة. المنفّذ ذئب منفرد من تنظيم داعش. على إحدى القنوات اللبنانية تسأل فتاة عن الهدف من هذا القتل العشوائي، وإطلاق النار على مدنيين أبرياء وهم بكامل أناقتهم؟ يمكن اعتبار «سيكولوجيا الإرهابي» من أعقد الموضوعات المتعلقّة بالإرهاب والتي تطرح منذ عقدين. في بادئ الأمر، أواخر التسعينات، ومع اتساع رقعة العنف أخذ التحليل النفسي مداه الأبرز، وبسبب من انعدام الجرأة على نقد الأفكار وبعض الخطابات الدينية صار للمحللين النفسيين صولاتهم وجولاتهم. غير أن العامل النفسي مهم لتعميق الفهم، والبحث في سيكولوجية الإرهابي لا يعني التعويل على مرضٍ نفسي معيّن، إنه بحث للفهم والتفسير، لا لإيجاد المخارج أو التبرير. ربما كانت أطروحة جيرولد م. بوست «القادة وتابعوهم - في عالم خطير، سيكولوجيا التحليل السياسي» من أفضل ما طرح بهذا المجال باعتبار تجربته «شاهدًا خبيرًا» بالتحقيقات التي أجرتها الاستخبارات الأميركية خلال واحد وعشرين عامًا، وهو مدير ومؤسس «مركز تحليل الشخصية والسلوك السياسي» بالاستخبارات الأميركية. قام بوست بعمل دراسات في العمق لشخصيات ونوازع وغوامض قادة العالم بغية مساعدة الرئيس الأميركي، ووزير الخارجية، ووزير الدفاع ومسؤولين حكوميين كبار آخرين أثناء عقد مؤتمرات قمة أو مفاوضات مستوى عالٍ وإفادتهم بالتعامل مع الأزمات، قدم دراسات عن صدام حسين، وفيدل كاسترو، وكيم يونغ، وأسامة بن لادن، وكان المسؤول عن وضع الملفات الشخصية لأنور السادات ومناحم بيغن التي استخدمها جيمي كارتر في محادثات كامب ديفيد. بالنسبة إليه، ليس الإرهاب ظاهرة متجانسة، وليس له تعريفٌ موحّد، ثمة طيف واسع من الجماعات والتنظيمات الإرهابية، وكل منها له سيكولوجية ودوافع، وبنية صناعة قرار مختلفة، بالفعل يجب على المرء ألا يتحدث عن سيكولوجيا الإرهاب بصيغة المفرد، بل عن سيكولوجيات الإرهاب، وربما يكون العنوان الأنسب للوصف: «عقول الإرهابيين» ذلك لأنه ضمن طيف من المجموعات الإرهابية، الإرهاب الثوري الاشتراكي، أو الإرهاب القومي الانفصالي، أو إرهاب الجناح اليميني، أو إرهاب المتطرفين الدينيين، كما أن الإرهابيين مدفوعون لارتكاب أعمال العنف نتيجة لقوى سيكولوجية، وإذا أخذنا في الاعتبار تنوّع القضايا التي يلتزمون بها، فإن وحدة خطابهم مفاجئة، إنه خطاب «نحنُ، ضدّ هُم»! ثم يضرب مثلاً بأحد القادة الذين تم إجراء مقابلاتٍ معهم وهو حسن سلامة، وكان قائد المفجّرين الإرهابيين الذين قاموا بموجة التفجيرات في عام 1996 التي عجّلت بخسارة رئيس الوزراء شمعون بيريس وانتخاب رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، فقد مات ستة وأربعون إسرائيليًا في الانفجار، وحكم على سلامة بأربعة وستين حكمًا مؤبدًا متتاليًا. قال حسن سلامة عن الإرهاب الانتحاري إن «التفجير الانتحاري هو أعلى درجات الجهاد، ويلقي الضوء على عمق إيماننا. المفجرون مقاتلون مقدّسون، يقومون بأحد أهم الشؤون الإيمانية»، بينما يضيف قائدٌ آخر: «هي الهجمات الانتحارية التي تحرز أعلى احترامٍ وترفع المفجّرين إلى أعلى مرحلة ممكنة من (الشهادة)». وكما كان إرهابي إسطنبول متخفّيًا، وقاتل السفير الروسي متسربلاً بلبسٍ حديث، لإخفاء الذئبية، فإن جيرولد بوست يتحفنا بشهادة دالّة وإن اختلف انتماء الأفراد المنتحرين بين تنظيمي «القاعدة» و«داعش»، وسواهما من الفصائل المشرعنة للأعمال الانتحارية، فهو وخلال خبرته «كشاهدٍ خبير» في محاكمات إرهابيي «القاعدة» المدانين بتفجيرات السفارات الأميركية في كينيا وتنزانيا، كان حصل على نسخة من مستندات وزارة العدل عن دليل إرهاب تنظيم القاعدة «إعلان الجهاد»، وهي وثيقة استثنائية تذهب بعيدًا في تفسير كيف استطاع إرهابيو الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) أن يحافظوا على غطائهم في الولايات المتحدة، التي هي بلد الأعداء، ففي الدرس الثامن مما يجب اتخاذه من الإجراءات بالنسبة إلى العضو «المتخفّي» أن لا يدل مظهرهم على التوجه الإسلامي، وأن يكونوا حذرين، بالإضافة إلى تجنب زيارة الأماكن الإسلامية المشهورة. ربما كانت ذروة وصفه لسيكولوجية الإرهابي جزمه بأن في قلبه فصيلة متوحشة من الحرب النفسية، هي العنف بصفته تواصلاً، لن تربح القنابل الذكيّة والصواريخ هذه الحرب، فالطريقة الوحيدة للرد على الحرب النفسية هي الحرب النفسية! من حقّ الفتاة اللبنانية البحث عن إجابة تبرر خسارتها لثلاثة من مواطنيها، باعتبار العمل ليس له تبريره العسكري، أو الديني، أو الميداني. يغدو الإرهاب أفظع حين يصاب المدنيون غيلة وعلى حين غرّة، بأماكن ليست للتدبير السياسي أو الاستخباراتي والعسكري، وبمنطقة هي مظنّة السياحة والترفيه، وأبعد ما تكون عن العسكرة والحرب، إنها أعمال تبرهن على التوحش والذئبية بالهجوم والاغتيال، بينما يصفهم إريك هوفر في كتابه «المؤمن الصادق» بـ«حثالة الأرواح الضالة». عمليّة كارثية، ذئب منفرد يستهدف الفردانية، يستخدم كل صيغ الحداثة لضرب الحداثة، يمرّ على الجثث بدمٍ بارد ليتأكد من تصفيتها، إنها روح انتقامية ارتكاسية. ما جرى بتركيا عبر العمليتين من مقتل السفير إلى عملية نادي رينا هو نقطة تحوّل بالعمل الإرهابي، خلاصتها «ما من مكان آمن في هذا العالم» مهما كانت الثكنات والحراسات، لأن الإرهابي الحديث يدبّ دبيب النملة السوداء، على الصخرة الصماء، في الليلة الظلماء.