×
محافظة المنطقة الشرقية

منفذ هجوم إسطنبول لايزال طليقاً.. والشرطة التركية تحدد هويته

صورة الخبر

في مجموعته القصصية الأخيرة «صيَّاد القصص»، والتي أنهاها قبل وفاته عام 2015 بشهور قليلة، قام إدواردو غاليانو برحلة ختامية في تاريخ العالم عبر ذاكرته الشخصية. كأن الكاتب المولود في مونتيفيديو - الأوروغــواي عام 1940، كان يـعبِّد سردياً لخطواته القليلة المتبقية نحو الموت بما يشبه الاستعادة الكلية للماضي. أُضيفت إلى هذه المجموعة الصادرة أخيراً عن دار «ورق» في دبي، بترجمة صالح علماني، ووفق الناشر الإسباني كارلوس ي. دياث، نحو عشرين قصة من كتاب آخر لم يكمله غاليانو، وأراد له اسم «خربشات» بعد اكتشاف الكثير من التشاركات بين هذا المشروع و «صيَّاد القصص». في القسم الأول من الكتاب المعنون بـ «طواحين الزمن»، يسافر إدواردو غاليانو إلى جذور الشغف. يجوب الأصول المتناثرة للحكايات داخل التاريخ ليقبض بتنقلات مكثفة على الخامات الكونية التي شكَّلت الروح السردية لعالمه الخاص. يتأمل غاليانو ذخيرته القصصية التي راكَمَتها مشاهد الحب والألم والحـــروب والمجـــازر والثــــورات والإضرابات، وأقدار الوعَّاظ والفلاحين والمسوخ والعمال والعبيد والمؤرخين والفنانين والموتى الأحياء والقتلة ورجال العصابات، وأحلام الشعوب والإمبراطوريات والأعراق البشرية والحضارات القديمة، وإلهامات القصائد والأغنيات ومبارايات كرة القدم ومقاهي العالم والشوارع والكتب والرقصات والبيوت والأقنعة والصحف والأفلام والمقابر والنكات، وكذلك الآثار السحرية للمطر والريح والنهار والشمس والليل والنجوم والقمر والطيور والحيوانات والأشجار والحقول والزهور والأنهار والغابات. كأن إدواردو غاليانو يجد في كل تلك الغنائم المحتشدة داخل ذاته «النَفَس الضائع»: «قبل الماقبل، حين لم يكن الزمان زماناً بعد، والعالم لم يكن عالماً بعد، كنا جميعنا آلهة. براهما، الإله الهندوسي، لم يستطع تحمّل المنافسة: فسرق منا النَفَس الإلهي وخبأه في مكان سري. منذ ذلك الحين، نعيش باحثيـن عـن النَـفَـس الضائع. نبحث عنه في أعماق البحر وفي أعلى قمم الجبال. بينما براهما يبتسم من مكانه البعيد». لم تتّسم قصص المجموعة بالطبائع المألوفة للقصة القصيرة، بل كانت أقرب إلى ما يُطلق عليه في شكل اعتيادي الخواطر التأملية والاقتباسات التوثيقية التي تدمج بين التخييلي والواقعي والميثولوجي. لكنها قصص قصيرة بالكيفية المتحررة من الأنماط الشائعة لفن القصة، والتي يتخذ السرد خلالها حالات غير تقليدية. يمرر غاليانو عبر قصص المجموعة إغراءً حميمياً لاكتشاف أنه وراء ما يبدو أحياناً غياباً للقص، يمكننا العثور على وفرة متوالدة من القصص التي تحرّض على خلقها، كما يمكننا رصد النبرة الشفاهية التي تليق بذلك المشّاء الباحث عن الحكايات، والذي تعلم فن القص في مقاهي مونتيفيديو القديمة على يد «الكذابين المعتبرين»، كما وصفهم. ربما هذا ما يجعل قصص غاليانو تقوم على نوع من المفارقات الكاشفة أو المصادفات التي تُشيّد بحدة الدعابة أساطير سردية في مواجهة الأعاجيب القدرية للحياة والموت. في القسم الثاني من الكتاب، يتحدث غاليانو عن البدايات وعن القصص الغريبة لكتبه مثل «كرة القدم في الشمس والظل»، كما في «أفواه الزمن» حيث الرسالة في القارورة التي أعادت الحياة إلى «خورخي بيريث»، و «أيام وليالي الحب والحرب» الذي افتتحه غاليانو بالجملة التي نسي ماركس أن يكتبها في «رأس المال»، و «شرايين أميركا اللاتينية المفتوحة» والرجل الذي اخترقته رصاصة قُتل بها رجل عصابات في معركة تشالاتيانغو. بعض من ذكريات الأحلام التي حاول بواسطتها صاحب «مرايا»، و «ذاكرة النار»، و «أبناء الأيام»، و «كلمات متجولة»، أن يصطاد الفناء. وتنتهي القصة بالقول: «والآن، بعد مرور السنوات، وبعد أن خلَّف الطفل طفولته وراءه منذ زمن طويل، يشعر بالأسى من أن يموت ويترك ظله وحيداً». إحدى القارئات، تُدعى دايدي دونيلي، كتبت إليَّ تطلب مني ألا أقلق: فالظل لن يبقى وحيداً، لأن ظل الظل سيــتــولى مرافقته. في القسم الثالث، وعنوانه «موجز»، يقدم إدواردو غاليانو ملخصاً لسيرته الذاتية، مقترناً بإشارات مختصرة عن الكتابة حيث قادته سهولة اقتراف الأخطاء في الصغر إلى إثبات أنه سيخلف أثر مروره في العالم. كان غاليانو يعرف أن الكتابة تُتعِب، لكنها تواسي، وهذا ما جعله يواصل ممارسة «الشغف غير المجدي» بتعبير سارتر، محاولاً أن يكون أقوى من الخوف أو من الخطأ أو من العقاب. في القسم الرابع الذي يحمل اسم «أردت، أريد، أتمنى»، يترك غاليانو ما يشبه كلمات الوداع، وهي - كما ذكر في النهاية - من «نشيد الليل» لدى شعب (ناباخو): «أن أمشي في جمال. أن يكون هناك جمال أمامي وجمال خلفي وتحتي وفوقي، وأن يكون كل ما حولي جمالاً، وجمال عــلى امتــداد طريـقي، وأن أنتهي بجمال».