النسخة: الورقية - دولي مع اندلاع أحداث الثورة السورية قبل ثلاث سنوات، اختار الإعلامي المصري باسم يوسف أن يخصص أولى حلقاته التلفزيونية للحديث عما سماه «إنجازات الإعلام السوري». قدّم يوسف آنذاك وعده بألا يترك الشعب السوري وحيداً، وأن يخصص حلقاتٍ قادمة لاستكمال أجزاء أخرى لهذا الموضوع. بعد عامين تقريباً وجه إليه الإعلامي نيشان ديرهاروتونيان سؤاله عن عدم استكمال الأجزاء التي وعد بها آنذاك، وردّ يوسف باقتضاب: «لقد أصبح الوضع معقداً جداً الآن، ولا يمكنني اتخاذ أي موقف بعينه من الأزمة السورية». يبدو أنّ الوضع المصري ليس أفضل كثيراً من الوضع السوري نظرياً، فعلى رغم الفرق الشاسع في الدمار والخراب والتصعيد العسكري، يبدو أن الفوضى السياسية تشي باستمرار التدهور حتى أجل غير مسمى. ولم تفلح ثورتان مصريتان في قتل الأب وكسر مفهوم التابوات الاجتماعية، فاستبدلت بمبارك مرسي، ومن ثم بالأخير السيسي. وبدا لمتابعي يوسف أنّ خطاً أحمر حول الجنرال السيسي قد رسم له، لدواعٍ أمنية أو عسكرية أو سياسية، أما يوسف الذي أعلن أن «البرنامج ما بيوقفش»، فله وجهة نظر أخرى تماماً. بعد عودته إلى خشبة مسرح راديو وإثر إيقاف برنامجه من قبل محطة CBC عقب الحلقة الأولى، لا يبدو أنّ القرار بإيقاف البرنامج كان متعلقاً بسلطات أمنية أو سياسية. لقد عاد يوسف بعد أسابيع أخرى إلى المسرح ذاته من دون مضايقات، وقام، بشكل غير رسمي، بنشر الحلقة التي منعت المحطة إذاعتها. أراد يوسف أن يؤكد مراراً أنّ البرنامج مشروعه الشخصي، وأنّ التغييرات التي يجريها هي خياراته الشخصية بما في ذلك عدم المساس بشخص السيسي في الحلقات الراهنة، كما كانت الحال مع الرئيس السابق محمد مرسي. في موسمه الثالث مع محطته الثالثة، يعود يوسف ليذكر محطته الأولى مع «إنجازات الإعلام السوري». يوجه بوصلته هذه المرة بشكلٍ طفيف تجاه رموز الدولة من وزراء ومسؤولين، بينما يضع نصب أعينه ضرورة التركيز على الإعلاميين المصريين بلا هوادة. وعلى رغم أن الكثيرين ما زالوا ينظرون للكوميديا السياسية التي يقدمها يوسف من ثقب المفتاح المرتبط بالسقف المرتفع، فباسم يوسف أصبح اليوم أكثر اهتماماً بتفكيك الإعلام المصري الذي يقف وراء كل الديكتاتوريات والأصنام المتتالية. وما يعتبره الكثيرون خطوة إلى الخلف أصبح هو المميز لموسمه الحالي من برنامج «البرنامج». مع تخصيصه فقرات كاملة للحديث عن إعلاميين مثل توفيق عكاشة وأماني الخياط وأحمد موسى وأحمد سبايدر، ومع تركيزه على مدى تهافت الإعلام المصري والتفاعل الشعبي المصري معه، يبدو أن يوسف يختار اليوم الطريق الأطول والأصعب، الطريق الذي يعنى لا بتغيير شخصية القائد المفدى، بل بتغيير النمط الإعلامي المروج له. والتقاط المفاصل الكبرى التي يثير فيها إعلاميون مصريون البلبلة السياسية، والفوضى الاجتماعية، والتمييز المبطن أو العلني أحياناً. على مدى حلقاته المتتالية الأخيرة، ركز يوسف على الترويج الإعلامي السمج للاختراع المصري الذي يدعــــي عــلاج مرض الإيـــدز والتهاب الكبد الفيروسي سي، ساخراً مـــن الإعلام المصري الذي يمكن أن يروج لأي فكــرة مهما كان مقدار سخافتها، وداعياً إلى تحقيق الوعد الذي قطعه على نفسه اللواء المخترع باجتثاث المرض من مصر بأكملها وإلا فمحاكمة جميع الإعلاميين الذين روجوا لهذا الوعد وتلاعبوا بأحلام المصريين وآمالهم. وقدم يوسف وعداً آخر بالمقابل يتضمن استمراره في إثارة هذا الموضوع حلقة بعد حلقة كي لا ينسى الناس مَن الذي يتلاعب بعقولهم وآمالهم وأحلامهم. هذا التغيير الذي يمارسه يوسف مع نفسه في المقام الأول ومع سياسة برنامجه وطريقة ترتيب أولوياته يثير الإعجاب بالمفهوم السياسي، فإرضاء الجمهور وفق المقاييس التقليدية المتعلقة بتناول الرموز الكبيرة قد يكون أكثر إغراءً وانتشاراً، ويمكن ليوسف أن يستمر في السخرية من السيسي كما سخر من مرسي، ومن بعده ربما يسخر من البرادعي أو صباحي أو أي رئيس قادم. وهو أمر ليس مستهجناً بالمقاييس السياسية التي توجب على المعارضة أن تلاحق أخطاء الدولة، لكنّ أصل المشكلة سيبقى راسخاً. يجب التوجه إلى جذور المشكلة، ولو كان الثمن الابتعاد عن سقفها. * كاتب سوري.