عندما تنتهي الحرب في سوريا ستنطلق الأفلام المختلفة لتروي فصولها ومن وجهات نظر متعددة. سيكون من الصعب معاينة الماضي من دون التوقف مليًا عند الأحداث العاصفة والمعارك الطاحنة التي شهدها ذلك البلد منذ ست سنوات حتى الآن. لكن هناك من لا يحب الانتظار، خصوصًا وأن ما لديه قوله ليس وقفًا على حالة موقوتة قد تمر وينتهي مفعولها. وضع استثنائي عابر يصبح الحديث فيه لاحقًا غير ذي أهمية. على العكس، ما لدى هذا البعض هو حالة ماثلة لا تتقبل التأجيل وستبقى، بصرف النظر عن نتائج هذه الحرب، ماثلة لأنها في الأساس متجذرة لما قبل بداية تلك الحرب. الفوز طنجور هو أحد هؤلاء المخرجين الذين يريد طرح ما لديه اليوم، والآن فيلمه التسجيلي «ذكريات باللون الكاخي» أحد أهم وأفضل الأفلام العربية لهذا العام. ليس أساسًا بسبب موضوعه ووجهة نظره في الوضع السوري المعقد، على أهمية هذا الموضوع، بل لأنه طوّع المادة فنيًا بحيث لا ينسى الفيلم أنه سينما أولاً ومضمون ثانيًا. هذه الطريقة ليست في مقدور الكثيرين القيام بها. وقد أجادها أيضًا، «جود سعيد» محققًا فيلمًا جيدًا آخر وإن يقف على الجانب الآخر من الانقسام الحاصل. فيلم جود سعيد، وعنوانه «مطر حمص» روائي مفعم كذلك بالملامح الفنية الأكيدة وبإجادة إخراجه وجديته. بذلك تكون السينما السورية، وعلى الرغم من الوضع الشائك، قد أنتجت عملين جديرين بالمشاهدة والتحليل علما بأن كل منهما يقف في ناصية مختلفة حاملاً راية لا يمكن للآخر القبول بها. فيلم الفوز طنجور هو الأمثل والأفضل لناحية البحث عن جذور المأساة السورية. إنه لا يتحدث عمن يقاتل اليوم، بل من الذي تسبب في ذلك بدء بتقسيم البلاد وتهيئتها لما هي عليه اليوم. إنه فيلم عن الثورة السورية الحالية وما قبلها. يسرد فيه ثلاثة أشخاص (رجلان وامرأة) خلفيات حياتهم التي تعرضت لظلم المؤسسة الحاكمة وسجونها فخسرت من حريتها وعافيتها لكنها لم تنكسر أو تنهزم. يلتقط المخرج تلك الشخصيات في المنفى.. تتحدث وتبوح وتصمت من حين لآخر تاركة للعيون ناصية الاستمرار في متابعة الأحداث. يقطع المخرج ببراعة بين كلماتها وبين مشاهد لأماكن الدمار ولمدن الخراب وفي مواجهتها بيئة المهجر المرتاحة لولا أن أنين الشخصيات اللاجئة إليها لا يزال يهدر. هذه الجوانب الشخصية، والطريقة التي نفّذ بها المخرج هذا الفيلم وكيف أخرجه من توقعات الفيلم السهل إلى عمل متميّز فنيًا وبدرجة عالية من المهارة والحرفة، موضوعات طرحناها في هذا اللقاء. > كيف تشكلت لديك الفكرة الكاملة لما تريد تقديمه على الشاشة؟ - استغرق الأمر ثلاث سنوات منذ اللحظة التي اتصل فيها الصديق والمنتج لؤي حفار يعرض فيها عليّ، العمل معًا على فكرة فيلم تتناول السنوات التي عشناها تحت حكم البعث. كنت أعرف منذ البداية أن الاقتراب من الموضوع السوري ليس سهلاً أبدًا، بل مهمّة صعبة. فهناك كثير من الأعمال التي تناولت هذا الموضوع بطرق مختلفة منها الساخر أو الدرامي أو التوثيقي، كما أن العالم يراقب ما يحدث في سوريا على محطات التلفزة منذ أكثر من خمس سنوات. بدأنا بكتابة الخطوط العريضة، الأفكار والموضوع، المحاور الرئيسية، الشخصيات المحتملة، شكل الفيلم، وتشاركنا كل ذلك مع مجموعة من الأصدقاء. كنت وقتها أعيش في بيروت مع عائلتي. وبعد أكثر من تسعة أشهر وصلنا إلى مخطط شبه نهائي. ولكني كنت أشعر بأن ذلك ليس ما أردته تمامًا. في اليوم التالي، لا أعرف ما حصل ولكني بدأت أعيد صياغة كل شيء من جديد، غيرت النص بالكامل، كتبت تمامًا ما كنت أحسه وأرغب في قوله، البنية السردية للفيلم، شكلها، والنصوص النثرية التي قرأتها في الفيلم وشخصية الطفل. بمعنى آخر بدأت أنطلق من الذاتي، من ذاكرتي كمؤلف وصانع الفيلم والعمل على نسج كل ذلك مع الذاكرة الجمعية للسوريين، بما تشاركناه خلال نصف قرن في مملكة الصمت! > ما التطوّر الحاسم الذي تعرض له المشروع في ذلك الحين؟ - سفري مع عائلتي إلى أوروبا والعيش كلاجئ. هذا أمر أساسي لأنه جعلني أنظر للفيلم برمته من زاوية أخرى أيضًا. هذا الابتعاد الحقيقي عن الوطن جعلني أبحث عنه في كل مرة في ذاكرتي من خلال التفاصيل التي عشتها وتقاسمتها مع الآخرين، وهنا قررت أن الشخصيات في الفيلم يجب أن تكون من الأصدقاء، فهم وحدهم قادرون أن يفتحوا لي سراديب أرواحهم ومعهم فقط أستطيع أن أغوص وأنبش أكثر، الأصدقاء الذين أيضًا، يعيشون تجربة المنفى خلال فترات مختلفة، من أماثل التي تركت البلد في أوائل التسعينات إلى خالد وإبراهيم وشادي وأنا الذين نعيش من ثلاث سنوات أو أربع، تجربة اللجوء والمنفى. طعم المنفى! الألوان وتفاصيل المكان والرائحة والذاكرة الجريحة... أوطانا تشبه الوهم. > كيف اخترت هؤلاء الأصدقاء؟ - اخترت الأصدقاء بحسب أهمية درجة تقاطع سيرهم مع القصص التي كنت سأرويها داخل الفيلم فكان حضورهم أساسيًا لإكمال الحكاية التي أقولها. منذ أن كنت طفلا في العاشرة وأزور خالتي في السر التي تسكن في حي الشيخ محيي الدين متخفية عن أعين النظام بسبب انتمائها لحزب يساري معارض، إلى إبراهيم صموئيل كاتب القصص التي تأثرت بها أثناء المراهقة والتي كانت مجموعته القصصية، الكتاب الوحيد الذي حملته معي عندما سافرت لأدرس السينما، إلى شادي الصديق الذي التقيته حينما عدت وبدأت أعمل كمخرج في مؤسسة السينما في دمشق، إلى خالد الرسام ابن مدينة حماة القريبة من مدينتي سلمية، صديق الذاكرة! تكلمت كثيرًا مع هذه الشخصيات قبل التصوير، عن الفكرة وما أرغب في قوله، دون التحضير طبعًا للأسئلة أو لشكل التصوير وكيف سيكون، فهذا أمر عادة أشتغل عليه بصمت. > كيف تجد الفارق بين هذا الفيلم التسجيلي وبين الفيلم الروائي إذا ما تطرّق إلى الموضوع ذاته؟ - في السينما الروائية يُبنى كل شيء، ويعاد خلقه من جديد ليأتي على صورة الواقع، ولكن من وجهة نظر المؤلف، الذي يبني عالمه كما يريد، كل ما يتعلق بسرد الحكاية، أو كل ما يلزم لقولها، الضوء وتدرجاته، حركات الكاميرا، لعب الممثل وحركته في الكادر، والديكورات، كلها تأتي لخلق شكل ومضمون الحكاية، فيأتي الفيلم ليعمل على حل لغز الواقع، وليس تقديم واقع مفكوك الرموز. السينما الروائية، ترصد الحياة وتسجلها، وتقول الحكاية كما أراد السينمائي المؤلف، من خلال اللقطات المتتالية، أما الفيلم التسجيلي فهو يرصد الحياة ويسجلها كما هي، طازجة عفوية، وفي كثير من الأحيان تحتاج لوجهة نظر محددة، لتأخذ أهميتها وترتقي لأن تكون سينما تسجيلية، أي أن يعاد صياغة اللقطات، أثناء التصوير، ثم أثناء تركيب الفيلم وبهذا فقط، أي من خلال التأليف، (وجهة نظر المؤلف)، تصبح السينما التسجيلية بالنسبة لي مهمة. لذا أتعامل مع الفيلم التسجيلي كأنه فيلم روائي، فأنا أختار كل شيء وأعيد بناءه من جديد، مع ضرورة الحفاظ على الصدق، وقول الحقيقة، في البناء أيضًا، بناء الشكل والمضمون، في فهمي لأداء (الموديل - الممثل - الشخصية) لحظة وجودها أمام الكاميرا، في طريقة السرد أحيانًا، وفي أحيان كثيرة حين يعاد توليف الحياة لتأخذ بعدًا آخر، يمّكن من فهم مختلف وجديد للواقع. > كيف وضعت سيناريو الفيلم؟ هل عاينت الأمكنة؟ هل كانت لديك فكرة ما عما ستطلعك عليه الشخصيات التي كنت تعزم تصويرها؟ - أنا مخرج درست السينما بشكلها الكلاسيكي، لم أكن أعرف يومًا أنني سأصنع أفلامًا تسجيلية. الشيء الأساسي الذي تعلمته في الجامعة هو كيف تكتب سيناريو جيد. من هنا، أنا مخرج يعتمد كثيرًا على الورق والسيناريو والتحضير الطويل للفيلم، قليل المغامرات! أحبُ أن أعرف كل شيء قبل التصوير، الأماكن والشخصيات والعلاقة بينهما، كيف تتحرك الشخصية في فضائها، حركة الكاميرا، حجم اللقطات، التفاصيل المحيطة، بمعنى أنني أحضر (ديكوباج) للفيلم التسجيلي. أحضر كل ما يتعلق بالصورة وبنائها. آخذ صورًا للمكان إن استطعت، أدرسه جيدًا، فالمهم دوما بالنسبة لي - أين سأضع الكاميرا؟! أما الارتجال والمغامرة بالنسبة لي هو لحظة الوقوف أمام الشخصية والحديث معها. هذا السحر باكتشاف معالم الروح والولوج عميقًا في السرد، لنصل معًا، للبوح، بوح السينما! إذن، لا أعرف تمامًا ما ستحيكه الشخصيات باستثناء الأفكار العامة، أترك ذلك للتصوير، أحب أن تكون لحظة الكلام مع الشخصية عفوية وطازجة، وهذا تمامًا ما أفعله مع الممثل! لا أحضر كثيرًا مع الممثلين، أحب مغامرة صيد اللحظات الحقيقية وأعتبرها أكثر التصاقًا مع الواقع، وهنا تتماهى بالنسبة لي الشخصية في الفيلم التسجيلي مع الممثل! أحرك الشخصيات في المكان كما أريد تمامًا، كما في الأفلام الروائية، نصنع معًا مشهدًا. لا أعرف كيف يمكن أن أرصد الحياة من دون وجهة نظر محددة! السينما بحاجة لتوليفة، وجهة نظر المؤلف، صانع الفيلم أمام الحياة، أمام الحقيقة! > هل طرأ شيء مهم خلال التصوير جعلك تغيّر من خطة عملك؟ - أعتقد بأن أهم ما حصل لي وجعلني أرى الفيلم من وجهة نظر مختلفة هو تجربة اللجوء، هذا المنفى البارد! اللجوء تجربة مريرة على الصعيد النفسي والإنساني، أن تحتمي بالآخر هو ضعف. كان يجب أن أقاوم كل ذلك من خلال الفيلم. أتصدى للحياة من خلال الأفلام التي أصنعها، أتصدى للألم، للقسوة، للاغتراب، وربما للحنين! هنا السينما تصبح فعل مقاومة وتحدٍ أمام سطوة الحياة للنجاة بالنفس، للنجاة بالذاكرة أمام النسيان. > هو فيلم عن الذاكرة المجروحة، كيف عملت على الربط بين الذكريات والأماكن المختلفة؟ - كان علي بناء هذه العلاقة في الفيلم، بين الشخصيات ووطنها، ولكن فقط من خلال المكان الذي تعيش فيه، لذلك كان الأمر معقدًا قليلاً، كان علي البحث في تفاصيل المكان، ثم نسج كل ذلك بطريقة تعبر فيه عن الحالة النفسية التي تعيشها الشخصية. أن ترى الوطن بعيدًا في الذاكرة وفي الجغرافيا أمر ليس سهلاً. صورنا في أماكن كثيرة ومختلفة وكان علي إعادة صياغة كل هذا ليبدو المكان واحدًا في الفيلم، والجغرافيا خارج الوطن هي خارج المعنى إلاّ ما أردناه أن يكون جزءًا من الوطن المشتهى! > تستخدم الرمزية في أكثر من مكان، وفي مطلع الفيلم هناك مشهد ذلك الصبي ثم هناك القميص المنشور أمام السهل وفي النهاية المشهد الأخير كذلك… هل لك تلخيص المفردات من ورائها؟ - بحثت طويلا في الأدوات المتوفرة في المكان ولدى الشخصيات، وحاولت إيجاد لغة خاصة ومتجانسة تمسك زمام الفيلم من البداية حتى اللقطة الأخيرة.. الولد في الفيلم هو نحن، جيل وربما أجيال تشاركت نفس التجربة وتفاصيل الحياة، الولد الذي يصنع بندقيته الخشبية ويلعب بها ليحارب الأوهام، الذي كانت حريته الوحيدة في المدرسة أن يختار شكل العقوبة، الذي رغم كل القسوة يحاول رسم شمس بالألوان التي يخبئها في حذائه. الولد في حالة الركض المستمرة، الهروب من الخوف والهلع والقمع، الجري باتجاه الأمام، المستقبل أو المجهول! في المشهد الأول نرى جاكيتته المدرسية العسكرية بلونها الخاكي منشورة على حبل وهو يركض في العمق، هو يحاول الهرب من هذا اللون، التخلص من العبء الذي يكرسه هذا اللون! يظهر الولد فجأة من بين سنابل القمح مرتديا كنزة حمراء (وهو شيء ممنوع في المدرسة) ويبدأ الركض، هو يهرب من قدره ربما إلى قدر آخر، هو لا يعرف بالضبط أين يتجه ولكنه فقط يرد أن ينجو... يلبس اللون الأحمر لون الدم، لون الثورة، هذا اللون الذي يتجلى في الفيلم في أكثر من مكان! اللون الأحمر هو قرار، قرار بالتحدي والتمرد على سلطة اللون الواحد! نعرف لاحقًا في آخر الفيلم أن ثمة قناصًا يتربص بهذا الولد، هذا القناص الذي يمثل الخاكي، الاستبداد، الخوف والهلع، ليل السوريين الطويل، هذا القناص الذي يتربص بنا، بأحلامنا، بحياتنا، وهو جاهز بأي لحظة ليضغط على الزناد ويقضي على كل شيء! الرصاصة في مشهد النهاية قبل الإعتام هي بمثابة الإنذار الأخير، لم نرَ الولد وهو يقع أرضًا، إذا ربما كان هناك متسع ضيق من الوقت لبعض الأمل! > كم كان مهمًا لديك معالجة مسائل السياسة الكبرى مثل التاريخ الفاشي للحكم في سوريا والحرب على الثورة التي انطلقت على النحو المرتفع عن المعتاد فنيًا وما هو الجهد الاستثنائي الذي بذلته خلال المونتاج إذا ما كان المونتاج هو الجهد الاستثنائي؟ - لخلق عاطفة في الفيلم يجب أن تعمل على مقاومتها، أن تبتعد عن إظهارها بشكل فج ومباشر. الفيلم بصيغته الأخيرة هو تقريبًا النسخة الثلاثون، وخلال عام أو أقل قليلاً تغير الفيلم كثيرًا، ليس بما يقدمه من أفكار وإنما بطريقة روي الأحداث، كان يجب في كل مرة أن أنتبه كثيرًا كيف أقدم الصورة مع الكلمات، كيف للكلمات ألا تشرح الصورة، بالعكس أن تكون مضادة لها، بما يمكنني خلق إحساس مختلف ومقاربة جديدة تُولد لدى المشاهد. عملت طويلاً على مفهوم الكثافة في الصورة البسيطة. قول الكثير من خلال ربط صور من الحياة اليومية مع بعضها، هذا يساعد في الولوج لقلب الواقع وفهمه. نعم يمكن القول بأن الفيلم يشبه النص ببنيته السردية ولكن المونتاج هنا كان حتميًا ومفصليًا لخلق عالم آخر من كل هذه الصور والمقاطع المحكية ليأتي الفيلم بالنهاية على شكله الحالي. مارس النظام لسنوات طويلة سياسات الترهيب والقمع، بالتأكيد كان من المهم أن أروي ما عاشه السوريون خلال كل هذه الفترة الطويلة من الحكم الاستبدادي، ولكن كما قلت سابقًا، بشكل يترفع عن المباشرة، ويعلو عن مستوى الخبر واليومي، يتناول لب الحكاية وجوهرها في فهم الأحداث وصيرورتها خلال نصف قرن، وهنا فقط يمكن أن يتحول كل ذلك لفعل توثيقي، سينمائي ومهم! > يرى كثيرون اليوم أن الوقوف ضد النظام هو بالضرورة تأييد للقوى المتطرفة كونها تريد الوصول إلى السلطة ليس حبًا بالديمقراطية كونها سوف لن تقل فاشية أو ديكتاتورية. هل خطر لك هذا الإشكال خلال العمل وهل حاولت الإجابة عليه؟ - أشاهد نشرات الأخبار منذ سنوات طويلة وأستمع لدجل المحللين السياسيين وأشتمهم ثم أرجع في اليوم التالي وأمارس نفس الشيء وهذا ما يحصل معي أيضًا في وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة من «فيسبوك» وغيرها. حاولت جهدي في الفيلم أن أبتعد عن الخطاب السياسي، عن المحاضرات والمزاودات، كنت أرغب فقط في حكاية القصص البسيطة التي عشناها معا كسوريين لسنوات طويلة والتي شكلت ذاكرتنا بلونها الخاكي! وشكلت وعينا خلال سنوات الخوف والاستبداد في ظل نظام ديكتاتوري حكم البلد بالحديد والنار لنصف قرن. لا أصنع الأفلام لكي أجيب عن الأسئلة أو أن أطرح حلولاً، أبدًا.. وإنما أصنعها لأسأل! كل ما أعجز عن الإجابة عنه في الحياة أحاول البحث عنه مع الآخرين في الأفلام! رغبت في صنع فيلم يدفع إلى التأمل في الواقع الذي نعيشه! عندما ثار السوريون في 2011 كانت ثورتهم ثورة كرامة، وكانوا ينادون ببلد حر ديمقراطي، بدولة مؤسسات وقانون، عدالة ومساواة، وهذا جعلني أنحاز كإنسان وكفنان مع مطالب هذا الشعب المقهور والمسحوق، موقف الفنان هنا مبدأي وأخلاقي بمناصرة الإنسانية والحق أمام القمع والهمجية والتسلط! وكما يقول إبراهيم صموئيل في الفيلم: «من أين أتت هذه الفكرة الشيطانية، بأن هناك شخصًا يتكلم والباقي يصمت للأبد، أين نُصّ على ذلك، لا بالشرائع السّماوية ولا بالتشريعات الأرضية، ليس هناك نص يعترف بمفرد صوت وأن الباقي لا أحد!» بالتأكيد متغيرات كثيرة طرأت خلال السنوات الماضية على الواقع السوري ولا أعرف أصلاً كيف يمكن أن ينتهي كل ذلك، ولكنني أعتقد مثل باقي الشخصيات في الفيلم بأن السوريين الذين دفعوا دماءهم وحياتهم ثمنًا لثورتهم وحريتهم وكرامتهم، لن يقبلوا في المستقبل أن يحكمهم لونًا واحدًا فقط، لا الخاكي ولا أي لون واحد آخر!