ارتباط وجود وانتماء هوية، واسترفاد للمكان المشع بكل شموله المعرفي، ومعطياته ومنظوماته الدلالية، ذلك ما جسده الأمير خالد الفيصل واستكنه أسراره وخفاياه، من خلال توثيقه مرحلة دون فيها حضارة الإنسان، وسلطان المكان، وسيرورة الزمن، اقتطف منها أبرز مواقفه أمام الموجودات وحمولاتها الصعبة، لكي يروضها ويستدرجها ويشعل الحياة في ساحاتها. لا يعرف الانكسار ولا يستسلم للإحباط والارتداد، لا يلتفت للساقط من الأحلام العاجزة، يؤمن بقدرة الله وتوفيقه، حين تهفو روح الإنسان إلى بلوغ "المستقبليات" واستشراف الغد، واستنطاق الجوهر الكامن فيمن حوله، يطرح "فكرة" فيلهب خيالك ويجعلك تردد "صعب تحقيقها" ولكنك لا تلبث أن ترى الحلم واقعا، والخيال حقيقة. هو شخصية استثنائية يترصد النجاح في كل انشغالاته ومفاعيله، لا يتقمص السلطة الشططية في ممارساته الفعلية والوظيفية، لإيمانه بالعقلية المنفتحة، والسلوك القيمي المعافى في الفكر والعمل، فنسيجه الاقتداري وتركيبته الفطرية تمتد ما بين الصرامة والحزم والرقة والعذوبة والشاعرية "مجموعة إنسان"، سأله أحدهم: "سمعنا وقرأنا أنك متأثر بشخصيتيّ الملك فيصل وابن جلوي، فأيهما أنت؟" فقال: "تلك شخصيات لا تتكرر وليس أمامكم إلا خالد الفيصل". جاء إلى عسير وكل أحلامها مؤجلة بل منطفئة ومنكفئة بين التصدع والامحاء، فقادها لمواجهة العصر، وأدخلها جاذبية الحضارة والمدينة، وجللها بالضوء الباذخ وأطياف المسرات، دان له جبروت الجبال، ولانت له الصخور السود، وأصغت لوقع أقدامه عروق العرعر المدلاة كالتمائم، غطرفت لقدومه سواقي القرى، وحصون الطين، ومسالك الأرض، أزهرت لوجوده ضحكات العشب، وبواسق الأقمار، وبساتين الضحى ودفاتر الأطفال، وسقوف الديار المكللة بالوفاء والعراقة، غادرها ذات مساء في إيماءة وداعية مؤثرة يقول عنها: "تزاحمت أكتاف شم الأنوف، رجال منطقة عسير الأوفياء، واختلطت المشاعر بين مرارة الوداع، وحرارة التهنئة بالثقة الملكية في موقعي الجديد، لن أنسى ما حييت عيون الرجال وقد امتزجت فيها رجولة النظرات بدفء المشاعر وحنوها في مشهد أخاذ، صعدت سلم الطائرة والتفت إلى رفقة سبعة وثلاثين عاما، فارتفعت لهم يداي وخفق لهم قلبي، أقلعت الطائرة وكأنها تقتلعني من أرض عسير وحبست دمعة". هل رأى أحد منكم جبلا يبكي أو يراوده البكاء؟ هذي "عسير الهول" لكن هالها من هاب جن اليأس من نظراته أعطى ربيع العمر كل عسيرها فانظر إلى ما ابيض من شعراته ذهب إلى أطهر بقعة، مهوى الأفئدة، ومهبط الوحي، ومبعث الرسالة فغمرته السكينة واستشعر روحانية المكان فقال: "أنا لي الشرف صرت ابن مكة ولد فيها نبي الله طه أحب أم القرى حبي لنفسي وأعشق أرضها وأهوى سماها وأنا أفدي كل شبر في بلادي وابيع الروح في أصغر حصاها" يقول الأمير: "هنا كل شيء مختلف –أي في مكة- الناس، الأرض، التاريخ، العادات، التقاليد، تعدد الثقافات بين المواطنين والمقيمين، وتأثر المنطقة بالخارج"، ولكنك لم تختلف أيها الأمير: العقل، اليقظ، التفكير الواعي، التجربة الثرية، الطموح المفرط، الأمل المتجاوز، الهدف النبيل، المخيالية المستقلة، الكفاءة المعقلنة، حركت الكائنات في تلك البقعة الشاسعة، زحزحت كل شبر هاجع وخامل في مفاصلها، استنهضت كل حجر وبشر في أصقاعها، فتحققت تلك الطفرات، واللحظات التاريخية المبثوثة في كل مدنها وقراها وهجرها في سنوات قصيرة ومعدودة، منحتها تلك المشاريع والتحولات الحياتية الضخمة والمترامية، أشعلت تلك المساجلات الاجتماعية والثقافية والاستراتيجية المفضية إلى التموضع داخل مدلول العصر، وتحديات المرحلة، وعدم الارتهان للآخر، والخضوع لفتنة الاستلاب ومركبات النقص. فدعوتهم للسير نحو "العالم الأول". قرأت كتابك "من الكعبة وإليها بناء الإنسان وتنمية المكان" أذهلني ذلك الفيض التعميري من المشاريع والإنجازات، والحراك الخصب المنظم والممنهج، وتوظيف ديناميات المجتمع وتثمير البعد الإنساني كمنتج للمعرفة والتفكير، والتكيف الخلاق مع المكان، فتحقق على يديك ما كان يرجوه ويأمله منك الوطن وخادم الحرمين الشريفين، الذي عبرت عنها بقولك "إنها أغلى ثقة من أكبر رجل في أقدس بقعة" أسعدتني تلك المشروعات والمبادرات والخدمات، والرؤية التنموية الصائبة، والانعتاق من الاصطبارية والتأجيل والتخاذل والعجز الإداري، فتحققت تلك المعجزات، قرأت الكتاب، فوجدت فيه توثيقاً رصيناً وأميناً، بعيداً عن التضخيم الفج، أو الجنوح إلى البهرجة والادعاء، والمغالاة في الإطراء، ولكنه السجل المشرف لرجل "يبيع روحه لأصغر حصى في بلاده" وقيادة لم تبخل على الأرض وإنسانها بشيء، الكتاب ممتع ورائع "مضموناً وإخراجاً" فقد تحرر من الكتابة النمطية، والثوب التقليدي، واتجه إلى الوثيقة والصورة كشاهد استقرائي، يروي ما حدث بالفعل بصيغة مختلفة من التداخل والتكامل والتبويب السردي للمراحل الكبرى، مما أعطى له قيمة جمالية فنية أدبية تاريخية. واليوم ها أنت يا سمو الأمير، تقود "أم الوزارات" لتشكل وعي الأمة، وترفع الأذية عن عقلها ومستقبلها، ولتحقق لها القوة التغييرية، وتعزز مبادئ تفكيرها المتعالي، وتقيها ضمور ذهنيتها، والقطيعة مع عصرها، والتهديم الممنهج لسلوكها، ها أنت مسؤول عن كل بيت في وطنك، يسترشد بما تمثله من وعي، وحس وطني، وتضحية سامية، وقيم إيمانية عليا.