×
محافظة مكة المكرمة

دعوة المهتمين بمعرض جدة للكتاب بتقديم المقترحات والانتقادات

صورة الخبر

التساؤل عن حدود القوة العسكرية الأمريكية ليس وليد اللحظة، فهو يعود بنا القهقرى إلى سنوات غزو أفغانستان والعراق مع بداية الألفية الجديدة، لكنه بدأ يأخذ الآن مشروعية جديدة مع وصول دونالد ترامب إلى سدة الحكم، إذ سبق لترامب أن صرّح خلال حملة انتخابات الرئاسة الأمريكية أن بلاده ستوجّه في المستقبل اهتمامها الأساسي نحو الجبهة الداخلية ولن تتدخل من أجل تغيير الأنظمة، وستركز جهودها العسكرية الخارجية على القضايا المتعلقة بمحاربة الإرهاب. لكن المتتبعين للسياسة الأمريكية يذهبون إلى القول إن هناك بوناً شاسعاً بين ما يتم الإعلان عنه من برامج وبين ما تفرضه تطورات الأحداث الداخلية والخارجية من تحديات على صناع القرار في البيت الأبيض. ويمكن الحديث في سياق هذه المقاربة التحليلية عن حدود القوة العسكرية الأمريكية- اعتماداً على رؤى وتصورات الخبراء الدوليين في الاستراتيجيات العسكرية- من خلال ثلاث نقاط رئيسية، تمثل الرهانات والمبادئ العامة والسياقات الأكثر أهمية بالنسبة لهذه الحدود التي باتت تقف عندها القدرات العسكرية الحالية لواشنطن. ويتعلق الحد الأول الذي يؤثر في القوة العسكرية تأثيراً بالغاً، بالتهديدات التي تشكلها الحروب غير التقليدية، التي تكون فيها الولايات المتحدة الأمريكية مجبرة على مواجهة خصوم يوظفون ويستثمرون أدوات وتكتيكات حربية مغايرة لما هو متعارف عليه في الحروب التقليدية ما بين الدول، حيث إنه من الصعوبة بمكان التنبؤ بردود الأفعال التي يمكن أن تقوم بها المجموعات المسلحة التي باتت تملك القدرة على استخدام أسلحة غير تقليدية مثل الأسلحة الكيماوية. وقد أضحى هذا التهديد غير التقليدي يتسم بالاستمرارية والديمومة بالنسبة للقوات الأمريكية المتواجدة في العراق وأفغانستان، إذ قامت حركة طالبان - على سبيل المثال - بتوجيه ضربات موجعة للجيش الأمريكي باستخدام أسلحة خفيفة وصواريخ آربي جي مضادة للدبابات. وغني عن البيان أن التفوق العسكري الأمريكي يكون مختلاً وضعيف الفعالية في مثل هذه الحروب غير المتكافئة، لأنه يوظف في سياق فضاءات جغرافية وجيوسياسية وعسكرية غير ملائمة، سواء تعلق الأمر بحرب الشوارع في العراق أو بحرب الجبال في أفغانستان. أما العنصر أو الحد الثاني الذي يُسهم في إبراز مدى محدودية القوة العسكرية الأمريكية، فيتعلق بالفضاء الدولي الراهن الذي استطاعت فيه قوى عالمية مثل الصين، وأخرى إقليمية مثل إيران أن تطوّر قدرات عسكرية تمنحها نوعاً من التفوق في سياق جغرافيتها السياسية الخاصة، إضافة إلى كوريا الشمالية التي تملك قدرات قتالية جيّدة لاسيما في المعارك التي يجري فيها قتال ملتحم بين القوات المتصارعة، وذلك فضلاً عن القوة العسكرية الروسية التي عرفت تحولاً يكاد يكون جذرياً منذ مجيء فلادمير بوتين إلى الحكم واعتماده على سياسة تصنيع عسكري جديدة. ونلاحظ أنه بموازاة التطور العسكري والتقني الذي يحدث لدى القوى المنافسة، فإن الولايات المتحدة باتت ترى أن نفوذها العسكري في العالم يواجه تحديات جديدة تتعلق بالجبهة الداخلية، حيث يعاني الاقتصاد الأمريكي من عجز كبير في الميزانية، الأمر الذي يمنعها من القيام بتغييرات كبيرة في ميزانيتها العسكرية الضخمة والمرتفعة أصلاً، كما يرتبط هذا الحد أيضاً بالاختلافات الموجودة في مجال الثقافة والقيم بين أمريكا والدول التي أرادت أن تبسط هيمنتها عليها مثل العراق وأفغانستان، وبالتالي فإن مثل هذه الوضعيات تجعلها غير قادرة على توظيف وسائل إخضاع أخرى مغايرة للقوة العسكرية الغاشمة التي كان مصيرها الفشل الذريع. وتتجلى ملامح الحد الثالث والأخير داخل الرأي العام الأمريكي نفسه، الذي بات يرفض رؤية جنوده وهم يعودون قتلى من مناطق الصراع المختلفة، وبخاصة بعد أن تجاوز عدد ضحايا الجيش الأمريكي في العراق وأفغانستان عتبة 6800 قتيل مع نهاية سنة 2014 ؛ كما أن فضائح التعذيب التي مارسها الجيش الأمريكي في العراق وأفغانستان أدت في السياق نفسه إلى تراجع كبير في عدد الأمريكيين الذين يلتحقون بالقوات العسكرية. وقد حاولت السلطات الأمريكية مواجهة هذه التطورات الحاصلة في المشهد العالمي، من خلال وضع خطط بديلة هدفت إلى تقليص التواجد العسكري الأمريكي في مناطق النزاع منذ نهاية سنة 2011، وهي السنة التي جرى فيها انسحاب القوات الأمريكية من العراق بشكل شبه كامل، قبل أن تضطرها التطورات الميدانية المتسارعة خلال السنتين الأخيرتين إلى إيفاد مستشاريها العسكريين من أجل مساندة القوات العراقية في جهودها الهادفة إلى تحرير الموصل من قبضة عناصر داعش. إن سعي واشنطن إلى تطبيق نظريتها الاستراتيجية الخاصة بإعادة التوازن في آسيا تعترضه صعوبات موضوعية جمة، فهي مضطرة إلى مواجهة حالة انعدام الاستقرار المزمن في الشرق الأوسط، ويصعب عليها بالتالي أن تتخلى في المرحلة الراهنة عن مصالحها الاستراتيجية في المنطقة العربية، كما أنها تواجه في المرحلة الراهنة صعوبات في زيادة إنفاقها العسكري من أجل تكثيف تواجدها في منطقة بحر الصين وشرق آسيا. وعليه فإن استراتيجية ترامب الهادفة إلى تخفيف حدة المواجهة مع روسيا من أجل توجيه الجزء الأكبر من قدرات أمريكا نحو مقارعة المارد الصيني، ليست سهلة التحقيق، لأن الضغوطات الداخلية إضافة إلى تلك التي يمارسها الحلفاء الأوروبيون من أجل مواجهة التمدد الروسي في شرق أوروبا والشرق الأوسط ستكون لها تأثيرات جدية على تحركاته وعلى خططه السياسية المقبلة، وتسهم كل هذه العوامل المتداخلة بشقيها العسكري والسياسي في إبراز حدود القوة الأمريكية، وفي تأكيد مدى التراجع الرهيب الذي بات يحاصر قدرات واشنطن على الاحتفاظ بزعامتها للعالم. الحسين الزاوي hzaoui63@yahoo.fr