في أواسط عام 2012، لحظة ذروة صعود حكم "الإسلام السياسي" متمثلاً في جماعة "الإخوان المسلمين" فيما اصطلح عليها بـ "دول الربيع". كتب فهمي هويدي أحد أهم منظري "الإسلام السياسي"، بعد زيارة أحمدي نجاد الرئيس الإيراني في حينه للقاهرة، ما نصه "لا أريد أن أذهب إلى أبعد من إحياء مثلث القوة الذي يضم مصر وإيران وتركيا؛ لأنني أدرك أن علاقات القاهرة وطهران أكثر دقة وتعقيدا مما يبدو لأول وهلة". تلك كانت رسالة لا مواربة فيها موجهة نحو الدولة السعودية، اللاعب الأبرز في "محور الاعتدال"، ورسالة أبلغ بأن الرياض والعواصم الخليجية لم يعودوا لاعبين رئيسين على المستوى الإقليمي. الخريطة السياسية التي تخيلها هويدي ومعه حشد من كتاب ومثفين لأسباب مختلفة، كانت ترى السعودية ودول الخليج في وضعها الأضعف، خصوصاً مع الدعم الهائل الذي كانت تجده هذه الجماعات من الدوحة، العاصمة الخليجية التي دائماً ما تستثنى من حسابات جماعات "الإسلام السياسي" التي تهدف إلى تكريس الصوت القطري كـ"أب روحي" لهذا الحراك. ساهم في تكريس هذه الصورة، الطبيعة غير الانفعالية للرياض. ولكن كيف كان سيكون شكل المنطقة لولا التماسك السعودي في زلزال "الربيع العربي"؟ قبل عشرة أعوام، أجرى الملك الأردني عبد الله بن الحسين، الفاعل في "محور الاعتدال1"، حواراً صحفياً مع صحيفة "الواشنطن بوست" الأمريكية. صرح فيه بمصطلح سياسي سيصبح تأطيراً واضحاً لحالة سياسية "تكدر صفو المنطقة". حسن نصر الله قال الملك عبد الله في معرض تخوفه من نظام حاكم في بغداد موال لإيران (هذا ما حدث بالفعل) يتعاون مع طهران ودمشق لإنشاء هلال شيعي يخل بالتوازن مع السنة. وقدّر في حينه أن بروز "هلال شيعي" سيدفع بالقلق نحو استقرار المنطقة. هذا "القوس الشيعي" ومركزه طهران الذي يرمي بكل ثقله اليوم في دمشق بمساندة "ميليشيات" حزب الله، الذراع العسكرية لطهران في لبنان، أو بالتسهيلات التي يقدمها النظام الحاكم في بغداد، دون تجاهل بالطبع القلاقل التي تثار في المنامة، العاصمة الخليجية. قابله قوس (إخواني) في دول "الثورات" المستلهمة في ذهنها التجربة التركية ونجمها رئيس الحكومة رجب طيب أوردغان، الذي يواجه تُهم فساد ومظاهرات احتجاجية في شوارع إسطنبول. ما بين القوسين الجغرافية لـ "الإسلام السياسي" بشقيه السني والشيعي، كانت تقع الرياض، العاصمة الأكثر هدوءًا في رياح "ربيع الإسلام السياسي" الذي يعصف بالمنطقة، ليس من خلال الدول آنفة الذكر وحدها، بل ومن خلال جماعات العنف المسلح من المليشيات الشيعية المشابهة لحزب الله، أو من خلال تنظيمات القاعدة وشقيقاتها، التي تعيش حالة يقظة للهويات الطائفية في أكثر صورها دموية، مثلما يحدث اليوم في سورية. رسم توضيحي شائع يشرح دول الهلال الشيعي. يقول هاني نسيرة، مدير معهد "العربية" للدراسات في حديثه لـ"الاقتصادية السياسية": "في هذه الحالة كان سيطبق التطرف الطائفي على المنطقة، وتنشط الجهادية الطائفية التي يمكن أن تتصالح مؤقتا ولكن لا يمكن أن تتصالح دائما، مع بعضها أو مع الجيوب الطائفية التي تسكن داخل وحداتها، فتتحول الدول لما يشبه المشهد الطائفي الدامي في العراق، صراع الزرقاوي وأبودرع (زرقاوي الشيعة) خاصة مع الفشل المستمر لسياسة المالكي الاستبدادية والإقصائية، التي جددت حياة داعش في الأنبار، وأنهت تجربة الصحوات الناجحة التي قضت على دولة القاعدة في العراق سنة 2007، أو المشهد السوري الماثل في فصائل إرهابية عدمية تمثل داعش وحزب الله معا، ويديرها نظام صارت الطائفية علامة حياته وشماعة استمراره في البقاء.. باختصار كانت ستعود حروب الصفويين والعثمانيين في القرن السادس عشر الميلادي". الرياض التي تستحدث باستمرار قوانين تجفف منابع "الإرهاب"، آخرها القرارات القاضية بالملاحقة القانوينة لكل من يشارك في القتال في الخارج، أو يدعمها ويشرعن لها ويؤيدها من الداخل، فضلاً عن مموليها بالطبع. كانت أولى المبادرات بدعم "الاستقرار" المصري بعد المظاهرات الحاشدة التي عمت شوارع القاهرة تطالب بخلع حكومة "الإخوان" المتمثلة في الدكتور محمد مرسي، ما دفع الجيش إلى التدخل لحلحلة حالة الانسداد الذي وصلت إليه الحالة المصرية سياسياً، وبقية القصة مشهورة. أردوغان وروحاني في لقائهما الأخير. قدمت دول الخليج، باستثناء قطر، دعماً مادياً بلغ 14 مليار دولار في أول أسبوع فقط. بهدف الحفاظ على توازن "الدولة" المصرية التي يراها مراقبون العمق الاستراتيجي لدول الخليج، واستقرارها متصل تاريخياً وجغرافياً بالاستقرار الخليجي، والعكس. "التوجس الطائفي في دول الاعتدال بدأ يأخذ منحى جادا منذ حرب العراق، وهو التوجس الذي تحول إلى يقين من خطورته في ذروة ما اصطلح عليه "الربيع العربي". عزز هذه الهواجس القلقة لدى دول الاعتدال، الصمت الأوروبي والأمريكي على أحداث سورية، وتورط ميليشيات حزب الله المدعوم من إيران فيه". بحسب إيمان الحسين، الأكاديمية السعودية والباحثة في العلوم السياسية، التي تزيد في حديثها لـ "الاقتصادية السياسية": "هناك بند في الأمم المتحدة أقر في عام 2005 يقضي بما اصطلح عليه "التدخل الإنساني"، وهو قائم على مبادئ مسؤولية الحماية في العالم من خلال التدخل الإنساني، ويشترط فيه أن يكون تدخلاً سريعاً تحت إشراف الأمم المتحدة. وهو بالمناسبة البند الذي اُستند عليه في الحرب التي شنتها على ليبيا ومالي. صمت المجتمع الدولي وتخليه عن دوره يفاقم المشكلات الطائفية في المنطقة". عاد "محور الاعتدال 2" هذه المرة بدور بارز لدولة الإمارات بجانب العنصرين الرئيسين (السعودية ومصر) في "محور الاعتدال1" اللذين تشاركا في الحرب على الإرهاب في مصر عام 1991 وعادوا ليتشاركوا في حربه في عام 2001، وأخيراً في عام 2013. شَخَّصت قناة (24 فرانس) الفرنسية، عودة القوة لهذا المحور أنه "يأتي على إثر الانتكاسات الكبيرة التي تشهدها ثورات الشعوب العربية" بحسب وصف القناة. هذه العودة أعادت تشكيل الخريطة السياسية للتحالفات في المنطقة، بعد تواري "الإسلام السياسي" السني ممثلاً في "الإخوان" عن المشهد السياسي المصري، مركز الجماعة الأم. بل اعتبارها جماعة "إرهابية" بعد اندلاع موجات العنف في الشارع المصري التي يشير الجهاز الأمني المصري صراحة إلى خيوط إخوانية فيها، علماً بأن التهم الموجهة لقيادات الجماعة لم تثبت حتى الآن وما زالت محاكمتهم قائمة على هذه التهم. في الطرف المقابل، حيث "الإسلام السياسي" الشيعي، يعاني ربما للمرة الأولى "وحشة" إعلامية، بعد اتفاق الباحثين والكتاب السياسين على أن فكرة "محور الممانعة" ذي الدوافع "الأخلاقية" لم تعد قابلة للتصديق وبالتالي الترويج، مع إحصائية تفيد بمقتل أكثر من 140 ألف سوري على يد قوات بشار الأسد والدعم اللوجستي من إيران، والمساندة العسكرية من حزب الله. (كانت قناة الجزيرة القطرية أحد أبرز المسارح الإعلامية الداعمة لحزب الله، حتى إن انشقاقات حصلت داخل القناة من قبل الموظفين، بعد مواقف سياسية مختلفة اتخذتها القناة، انتهت بكثير منهم في قناة "الميادين" في بيروت المقربة من طهران وحزب الله). توضح دراسة أمريكية حديثة صادرة من "معهد واشنطن للدراسات"، أن سلوك "حزب الله"، المصنف دولياً كتنظيم إرهابي، ساهم في "استقطاب بيئات معادية". وتشير الدراسة إلى أن حزب الله "يساند الأسد في استعادة قدراته الهجومية". كما أنه درب ما يقرب من 50 ألفاً من القوات السورية غير النظامية. في هذا السياق، يلفت الباحث نسيرة إلى أنه "من المهم إدراك أن سقوط الإسلام السياسي في مصر بالحراك الشعبي في 30 يونيو وانضمام الدولة له، بدأ بحراك أتبعته حواضن الدولة التي هددها نظام الإخوان الذي لم يكن له منهج غير أخونة الدولة، لم يؤثر هذا السقوط في الإسلام السياسي السني فقط، كما نشاهد في تركيا التي سقط نموذجها، ولكن أثر أيضا في الإسلام السياسي الشيعي في إيران، التي تشهد مظاهرات ومعارضة نشطة أيضا في العامين الأخيرين". ويضيف "تقاربت تركيا وإيران في الدفاع عن الإخوان في مصر، كما تقاربا معا عمليا بعد 30 يونيو، وكانت هناك زيارة سابقة وقريبة قبل شهر لأردوغان لإيران، وسعت إيران مع روحاني لكسر عزلتها عبر غزل التقارب والتنازل في المفاوضات بخصوص ملفها النووي.. إن النموذج "الإسلاموي" المتعصب الذي يختزل الإسلام واتساعه في مرجعيات ضيقة، ويختزل الدولة في فصيل، ويختزل العالم في صراع وثورة لا شك مصيره السقوط". المحاور "الطائفية" بشقيها في منطقة الشرق الأوسط عادة ما تهدف إلى خلق توازنات إقليمية على حساب مجتمعات منقسمة تسعى للاستقرار، خصوصاً في منطقة معقدة في تركيبتها القومية والعرقية والدينية والمذهبية. ما يدفع الدكتورة الحسين إلى التأكيد أن "الحرب على الإرهاب أولوية" لدول الاعتدال لاستعادة استقرار المنطقة. وعلى النسق نفسه يرى الباحث نسيرة في ختام مداخلته "أولويات محور الاعتدال إعادة ضبط النظام العربي المترهل والمشتعل، وإعادة توازنه مع التحديات الإقليمية متمثلة في النووي الإيراني والإرهاب وتصاعده المستمر، وإعادة الاعتبار للدولة المتصالحة مع الحريات وحقوق الإنسان والمواطن المسؤولة، التي لا تتحول لفوضى. إضافة إلى دفع عجلة التنمية، وعجلة القضية الفلسطينية المتعطلة والمنقسمة أطرافها، فمشكلة الفصائل الأيدولوجية المسلحة أنها تفكر دائما كفصيل لا كدولة ولا كقضية. وترى نفسها دائما شرعية واحدة فقط، فالانقسام الفلسطيني الماثل أكبر تحد لشرعية ومشروعية القضية ومستقبلها معا". المخاض السياسي الذي تعيشه المنطقة في مرحلة ما بعد "الثورات" ربما كانت معالمه غير واضحة بعد، لكن الأكيد أنه مخاض لصيغة ستعيد تشكيل الخريطة السياسية، مع الفاعلية التي يبديها "محور الاعتدال 2" في مقابل "محور الممانعة" القائم على أسس طائفية، كما يرى الباحثون المتخصصون.