×
محافظة المنطقة الشرقية

“سامسونغ” تكشف عن ملحقات هاتف ذكي تساعد المكفوفين وضعاف البصر

صورة الخبر

كان يمكن لرواية (الباب الطارف)، لعبير العلي، في طبعتها الأولى، الصادرة عن دار طوى، عام 2012، أن تتوقف عند الصفحة (141)، دون أن تكون بحاجة إلى الصفحات الست المتبقية، أو حتى إلى ملحق الصور المضاف في آخر الرواية، وذلك لأن الرواية عند ذلك القدر، تكون قد قالت كل ما يمكن لها أن تقوله وانتهت فعليا، ولأن ما بعد الصفحة (141) لا يستقيم في المقارنة مع ما قبلها، وما ظل يفصح عنه بناء الرواية من قدرة الساردة على القبض المتقن على أدواتها دون أن يترهل بها السرد، أو أن تستجيب لغوايات اللغة! وكذلك يمكن لقارئ متمعن أن يعثر على نتوء ما في بنية الحكاية بين ما قبل تلك الصفحة وما بعدها، ولن يطول به الأمد ليشعر أن اللغة تنكرت ولو قليلا لأبجدية الغيم، ولثغة الدفء، لتنزلق فيما يشبه الشعاراتية التي لا يحتملها منطق السرد، ولا يوائمها سياق ظل يؤاخي ببراعة بين شعرية شفيفة، وروائية محكمة، حتى إذا أنجز روايته، قام يستعير لزوائد السرد لغة الخطابات العسكرية. ومثلما أن للرواية ملحقا مصورا، فلها كذلك في تلك الصفحات ملحق كلمات صفت بعد أن أوصد السرد باب الحكاية، ثم أريد لها أن تلحق به، ولعلنا هنا نتلمس الباعث الذي تخطى إطار الفنية، وأغمض الطرف عن فارق اللغة، ليسوغ للرواية نهاية وقعت خارج سياقها. والحدس بذلك الباعث يستلزم أن نشرع الباب الطارف لقراءة ترهف الوعي لصوتين يحتدمان خلف باب ظل مواربا على مدار الحكاية، ينطق أحدهما بظاهر مراد الرواية، بينما يفصح الآخر عن نسق بالغ الإضمار ظل يخاتل السرد ويراوغه حتى إذا انتهت الحكاية عادت الساردة تستدرك على عجل ما قاله النسق، فكان ذلك تكريسا لهيمنة النسق لا استدراكا عليه! ولعل أعقد ما في رواية الباب الطارف أن شفرات السرد فيها ليست فيما تقوله الرواية، لكنها في المضمرات وفي القاع العميق للتجربة، والمتن فيها بكل طاقات المكان والزمان والشخوص إنما هو شاهد متن خفي لا يؤطره الزمن السردي ولا فضاء المكان في الرواية! من هنا يمكن القول إن الباب الطارف ليس ذلك الموارب أبدا في انتظار حبيب، أو وعد حبيبة فقط، لكنه الموصد بإحكام على ما وراءه، وبوجه كل الطارئين على حكايته، مثلما أنه ليس رتاجا على حكاية تفرعت عنها حكايات خلفه، لكنه نهاية سور ضخم يسيج خلفه حقبة من التاريخ، وبقعة من الجغرافيا، وينكر ما وراء ذلك من الجهات والأزمنة. ومتن الحكاية في (الباب الطارف) تنفرد بروايته (حنين)، ويتخذ مسارا خطابيا ينتظم الرواية كلها، ويراوح بين السرد المباشر، والمناجاة المترعة بالبوح، وتتخلله وقفات يتباطأ فيها السرد مفسحا للغة أن ترسم تفاصيل المكان بشعرية تقتفي أثر الغيم، ودروب الضباب، والقصائد التي تتخلق في حفيف الريح والشجر، وإمارات الفصول حين تتعاقب في أفق (أبها) التي تطل دوما باعتبارها الحاضنة المكانية، والشخوص الذين ظل يستدعيهم أو يغيبهم السرد وفق تحولات العلاقة بين (حنين) و(سعد)، وأطوار الحب الذي بقي المحرك الرئيس للتفاصيل، وعلى ضفافه تولد الحكايات في احتدامه وخفوته، وحتى التئامه في اللحظة التي لم يكن يحسن أن يعقبها شيء سوى نقطة الختام، حين كان كل من المضمر والمعلن قال ما لديه، وحين أبصر كل منهما الآخر، فعادت الرواية تعتذر عن جنايات النسق وعاد النسق يبسط نفوذه حتى على زوائد الرواية، والمخبأ في لاوعي التجربة لم يكن ليسير بمحاذاة السياق فحسب، إنما كان يباغت تدفق السرد، وربما بعضا من منطقيته حين يلمس القارئ انحسارا ما في تلقائية ذلك التدفق عند مفاصل معينة من الرواية. وتمظهرات النسق في الرواية كانت تفصح عن نفسها وبجلاء في قلق العلاقة بين من وراء الباب الطارف ومن هم خارجه، مع الأخذ في الاعتبار أن الباب الطارف هنا، وكما أشرنا من قبل، كان بوابة جغرافيا شاسعة اختزل السرد رمزيتها في بيت (حسن المهيب) جد (حنين) والعينة من الحياة التي اختيرت رموزها لتحيل على الحياة في فضائها الأكبر الذي شكل مادة السرد وخام التجربة. وأول إشارة لقلق تلك العلاقة نرصدها في حديث (حنين) عن تحذيرات جدتها (عطرة) لها من الانفراد مع أبناء العمومة الذين أفسدتهم حضارة المدن الكبرى: (لماذا اخترت هذا المكان، لماذا غرفة جدتي؟ ألتثبت شجاعتك؟ أم هو التحدي لتحذيرات جدتي المسموعة دائما من الانفراد مع أبناء أعمامنا، وخصوصا أولئك الذين أفسدتهم حضارة المدن الكبرى، فضلا عن الغرباء) صـ 15 وإن كانت تحذيرات الجدة ليست لباعث نسقي بالضرورة، فإن النسق يتبدى في السرد الذي يبيح لـ(سعد العامر) ما لا يبيحه لأبناء العمومة؛ لأن سعد حينها لم يبرح الباب الطارف بمفهومه الأوسع، ولم تفسد الفضاءات الأخرى نقاءه المفترض والنسق الذي يدني (سعد العامر) ويقصي أبناء العمومة لمجرد أن مدنا أخرى وشمت أرواحهم، ذلك النسق يبلغ من إقصاء غير المنتمين إلى جغرافيا الباب الطارف شأوا لا يكون معه ذلك الباب طارفا فحسب، بل متطرفا حين يغلق دون أن تبلغ عاطفة إنسانية هي الأكثر حميمية وتلقائية بين العواطف جميعا غايتها، وحين يغيب من أفق الحدث (وضحى) أم (حنين)، والتي لا يعرف لها في الرواية مصير محدد، ولا يكون لها ظهور إلا لحظة مغادرة بيت (حسن المهيب) مطرودة، ولا جريرة لها إلا أنها من جهة مغايرة، تأباها جهة الباب الطارف، ولا تشفع لها أمومتها لدى كل من وراء ذلك الباب، ولو كانت الابنة (حنين)، والتي لم تظهر كبير اكتراث لذلك الغياب رغم أن وحدة خانقة كانت تسيج حياتها، إلا من أمنية عابرة في يوم زواجها الأول، لحظة فقد واحتياج: (نساء كثيرات يحطن بي، ولكن لم أرد وقتها إلا وجه أمي الذي أجهله، شعور باليتم تجسد في هذه الساعات بكسر أليم داخل الروح، تمنيت لو كانت قربي هذا اليوم فقط لأركن على عظمة اسمها كل مخاوفي) صـ 79 ولحظة الانكسار هذه، هي كذلك لحظة انكشاف النسق، حين يقف موازيا لمنطقية الإقناع السردي، وتبرز مضاهاته بتلقائية الفعل والشعور الإنساني لدى البطلة كيف يمكن لنظامين اثنين أن يتنازعا اللحظة السردية، وكيف للنسق أن يراوغ السرد، فينكشف حينا، ويبدو متجذرا عصيا على الظهور أحيانا أخرى. والنسق الذي يخفي الأم، ينزل بالأب (عايض) ما يشبه العقوبة، حين يميته في حادث سير، بعد أن تأزمت علاقته بوالدته ووالده لزواجه من (وضحى)، لحظة أن كان يتأهب للسفر إلى الشمال، وكأن نقمة ما أدركته إثر خروجه عن أعراف الباب الطارف بزواجه من جهة مغايرة، فترصده الموت، وحكم عليه بالغياب، مثلما هي زوجته، ومثلما أن أمه كانت تغيب ابنته (حنين) عن أبناء عمومتها، حيث الغياب مآل كل الجهات سوى جهة الباب الطارف! ومثلما أن النسق يضحي بالإنساني والحميم مقابل إقصاء الواردين إلى الباب الطارف من غير دوائره، فهو كذلك يقدم شيئا من الفني قربانا يذود به كل ما من شأنه أن يكون طارئا على منظومة فكره ورؤاه، ففي حديث البطلة حنين عن زوجها الذي قبلت به بديلا حين توهمت خذلان الحبيب، لم يزد السرد أن استدعى صورة بالغة الجاهزية والنمطية معا، ليعيد تركيبها في البناء الروائي، دون أن يحاور تلك الصورة، أو أن يجرب تكوين الشخصية وفق مقتضى الحدث، وعلى ضوء الرؤيا التي تتخلق في لحظة الخلق الروائي، وليست تلك التي يجري إسقاطها على العمل من خارج أسواره، لمجرد أنها مكرسة في في سياقات أخرى تكون أولى مهام الإبداع إعادة نقضها ومساءلتها ومواءمتها بمقتضى الشرط الفني، وليس الإفصاح عن موقف شخصي تكون الأحداث والشخوص له مجرد أوعية تملأ بإرادة السارد بغير مشيئة لها: (لم تكن الموسيقى نقطة الاختلاف الوحيدة بيني وبين أحمد.. الحجاب، بعض الكتب التي أحضرتها معي، وحتى قراءة الصحف، كنت أثق أن بإمكاني التعايش مع تحفظاته، شرط ألا يجبرني على رأيه، ولكن مع امتداد الأيام اتسعت الهوة مع غياب الحوار والهم المشترك) صـ 90 وتبدو جاهزية الرؤى المسبقة ماثلة في (اللوثة) التي وصفت بها البطلة ما يقوم به زوجها وما قلدته هي فيه لاحقا: (أعترف أنني في إحدى الفترات أصبت بلوثة يتلبسها ربما محاولة للخروج من ضجري، وجدتني أتحدث مثله ومثل شقيقته فاطمة، أو بالأحرى أتصنع هذا الدور) وفي رواية الباب الطارف لا بد للسياق أن يلحق نقصا ما بكل من تأتي به نوافذ الحياة من خارج الباب الطارف، مثلا (نورة) التي ظلت تكاتب (صالح) وتراسله، لم تكن أكثر من عابثة انتهت به إلى الخذلان، كما أن (شريفة) التي أحبها لاحقا لم تكن لتبلغ معايير القبيلة والمجتمع لتكون زوجة له، وإذا كان خذلان (نورة) لصالح نقصا بمعاييره هو، فإن خذلانه لـ(شريفة) كان كمالا يبقي على نقاء النسب ويحتفظ بميراث القبيلة! ولعل السرد كان بحاجة إلى مزيد من التريث لإقناع قارئه بمنطقية قبول حنين بالبزوغ المفاجئ لـ(سعد) في حياتها مجددا، والذي لم يكلفه أكثر من رسائل هاتفية، عادت بعدها العلاقة لتلتئم بين سعد النقي من كل شبهة علاقة سوى حنين، وحنين التي استعادت نقاءها بزوج مفارق وجنين مجهض، وكان يمكن لذلك الالتئام أن يسدل ستار الختام، قبل أن يستدرك السرد ما ظل يكرسه في معزل عن وعيه، فيستغفر له بتضحية كبرى، حاولت الساردة ربطها بالفضاء الأكبر/ الوطن، لكن النسق اختار لها الجهة ذاتها التي كان هاجسها على مدى الرواية إقصاء الجهات، لتنتهي الرواية بجنين يتخلق في أحشاء حنين، في ظلمات ثلاث، وراء باب طارف، موصد بإحكام!.