في ظل معاناة الاقتصاد الدولي منذ اندلاع الأزمة المالية العالمية، من بطء النمو وارتفاع البطالة وخلل في توزيع الثروة والدخل بين الدول وداخلها، حذر صندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية من ان ينزلق الاقتصاد العالمي إلى فخ الانكماش الذي يؤدي إلى انخفاض تاريخي في التجارة الدولية. ومثل هذا التوجه يجب ان يدق جرس انذار لكل حكومات العالم. فقد حذر صندوق النقد في أواخر ايلول (سبتمبر) الماضي، من ظاهرة انخفاض التضخم الذي يتغذى على انهيار أسعار السلع، خصوصاً النفط وتراجع الطلب، ومن ان يدخل الاقتصاد العالمي في منطقة خطر وتدهور عميق تدفعه في فخ انكماش واسع في شكل عام، وفي الاقتصادات المتقدمة بخاصة. وحضّ صندوق النقد الحكومات على العمل مع البنوك المركزية، التي لم يعد لديها أدوات لدعم النمو وزيادة الدخل للنهوض باقتصاداتها. ويأتي هذا التحذير في تقرير دوري للصندوق بعنوان «آفاق الاقتصاد العالمي» صدر في تشرين الأول (اكتوبر) الماضي، تمت مناقشته خلال الاجتماعات السنوية للصندوق والبنك الدولي في الفترة 7 - 9 تشرين الأول الماضي في واشنطن العاصمة. وقد جاء تحذير الصندوق في وقت استشرفت منظمة التجارة العالمية نمو التجارة عالمياً بمعدل لا يتجاوز 1.7 في المئة فقط في العام الحالي. ويعتبر هذا المعدل الأدنى منذ الأزمة المالية عام 2008. وصرح المدير العام لمنظمة التجارة العالمية روبرتو ازيفيدو، بأن التباطوء الدراماتيكي في التجارة الدولية يجب اعتباره جرس انذار لتفادي ما هو أسوأ. والواقع ان بيانات حجم التجارة الدولية تشير إلى أن معدل نمو تجارة السلع والخدمات كان أعلى من معدل نمو الاقتصاد العالمي الحقيقي (قياساً الى نمو الناتج المحلي الإجمالي) خلال الفترة 1998- 2007، وبلغ معدل نمو حجم التجارة الدولية السنوي 6.7 في المئة بينما بلغ معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي العالمي 4.2 في المئة. وخلال الفترة 2012 - 2016 لم يتجاوز معدل نمو التجارة الدولية معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي العالمي، ويتوقع أن يظل معدل نموها ضعيفاً نسبياً خلال الأعوام 2016-2021 حيث يتراوح بين 3.1-4.3 في المئة بينما يتراوح معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي بين 3.2 و3.9 في المئة. تبيّن هذه الأرقام أن العلاقة بين النشاط الاقتصادي والتجارة العالمية التي سادت في سنوات ما قبل الأزمة المالية العالمية، تغيرت ولم تعد قائمة. وفي هذا المجال لا بد من السؤال عن أسبباب انحسار التجارة الدولية. ونذكر في هذا السياق ان البيان الختامي لاجتماع قمة مجموعة العشرين الحادي عشر الذي عقد في مدينة هانغزو الصينية يومي 4 و5 ايلول الماضي، أكد تنشيط التجارة العالمية والاستثمارات، ومعارضة الحمائية ومحاربة الهجوم على العولمة الذي بدأ يطل على العالم مدعوماً من بعض القوى السياسية التي تركب موجة العداء لها. فقد ظلت التجارة العالمية منذ خمسينات القرن العشرين، المحرك الداعم للتقدم الاقتصادي. وكما ذكرنا في ما سبق، كانت التجارة العالمية تنمو بمقدار ضعف معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي العالمي حتى نشوء الأزمة المالية العالمية عام 2008، وبدأت وتيرة ذلك بالتراجع بعد الأزمة. وهنا يبرز التساؤل عن أسباب ذلك التراجع. يوضح صندوق النقد الدولي أن ضعف الطلب العالمي يفسر او يعلل جزءاً من التراجع، اذ إن قيام الحكومات بتدابير حمائية متزايدة على مدى السنوات الخمس الماضية يفسر ما بقي غامضاً. ففرض قيود على التجارة الخارجية يعكس ممارسات اقتصادية سيئة ومثبطة للنمو الاقتصادي، وهي في حد ذاتها حماية وعزل للتجارة. وهذه إجراءات تؤدي إلى حرمان الأسر والأيدي العاملة من الفرص الاقتصادية المهمة ويرفع تكاليف الكثير من السلع الأساسية. صحيح أن العولمة ربما كانت مسؤولة عن فقدان الأيدي العاملة غير الماهرة وظائفها في الاقتصادات المتقدمة، لأنها تظن ان الشركات التي كانت تعمل لها رحلت إلى بلدان أخرى بسبب طمع الشركات العالمية الكبرى والسعي وراء تقليص تكاليف الإنتاج وخصوصاً فاتورة العمل. ونذكر هنا ان الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب وعد الناخبين بالحمائية ورفع الحواجز امام الواردات والعمل على استرجاع الوظائف التي فقدها الاقتصاد الأميركي في ظل الانفتاح والعولمة. ومن المتوقع ان رفع الحواجز الحمائية والعداء للعولمة سيزدادان إذا فشلت حكومات العالم، خصوصاً الدول الأعضاء في مجموعة العشرين، في رفع معدلات النمو الاقتصادي وخلق فرص عمل جيدة ومجزية، والعمل على تأمين استفادة الجميع من النمو والعيش الرغيد. فالحكومات، إذا تخلت عن القيود التي تفرضها على موازناتها، قادرة على دفع النمو والنشاط الاقتصادي الذي يخلق فرص عمل جيدة ويؤمّن شمولية الجميع بتمويل البنية التحية من طرق ومدارس وجامعات ومستشفيات، شرط ان يستخدم إطاراً تمويلياً غير التمويل التقليدي.