يسرد التاريخ القريب ـ وتحديدا في العام الميلادي "1856" بمدينة نيويورك الأميركية ـ خروج آلاف من النساء اللاتي يجبرن على العمل وسط ظروف قاسية لا إنسانية وبأجور متدنية، في مسيرة احتجاجية صاخبة رفعن خلالها شعارات ونداءات تطالب بتغيير أوضاعهن المأساوية تلك، وهو ما قابله تدخل وحشي غير مُبرر من قبل الشرطة، إلا أن المسيرة نجحت لاحقاً في فرض جدولتها على اجتماعات المسؤولين، ولكن على استحياء كبير، ليتم إحياء تلك المسيرة وتكرارها في العام "1908" وفي نفس المدينة، من قِبل النساء العاملات في مصانع النسيج بالولايات المتحدة الأميركية، مبتكرات طرقهن الخاصة للاحتجاج، من خلال رفع باقات من الورود، إلى جانب أرغفة الخبز الجاف "اليابس"، ورافعات لسقف المطالبات التي بلغت ذروتها بالحقوق السياسية المتمثلة في حق الانتخاب، إضافة إلى المطالبة بزيادة الأجور وتقليص ساعات العمل اليومية، وكذلك المطالبة بمنع تشغيل الأطفال، لتتوالى بعد ذلك المسيرات والمطالبات في أعوام لاحقة، حققت من خلالها المرأة كثيرا من أهدافها المرضية، وبات اليوم الثامن من شهر مارس من العام "1909" أول يوم تعقد فيه المرأة احتفالاتها بهذه المناسبة، ليكون بعد ذلك يوما عالميا للمرأة تقيم فيه مؤتمراتها كل عام لتخليد ذكرى تلك المسيرة التي شرعت ووضعت أولى لبنات المناسبة، ويوما يحتفل فيه العالم على اختلافه معها بتلك الذكرى التي رفعت فيه المرأة صوتها مطالبة بحقوقها العادلة، وتستعرض فيه إنجازاتها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والعلمية والفكرية. وقد ظل الاحتفال بهذا اليوم باهتا، إلى أن أوصت منظمة الأمم المتحدة في العام الميلادي "1977" باعتماد يوم في السنة للاحتفال بالمرأة، ويكون رمزاً يخلد مسيرة كفاحها، فتقرر أن يكون نفس تاريخ الخروج الأول، وقد أحرزت المرأة في الغرب منذ ذلك التاريخ إلى يومنا كثيرا مما سعت إلى تحقيقه كما تفضل وتأمل. ويعدّ هذا اليوم فرصة للاستماع إلى صوت المرأة على مستوى العالم، وفرصة سانحة جيدة لنا في العالم العربي على وجه التحديد؛ للوقوف على ما تحقق لها في هذا الشأن، للإسهام في رفع سقف ومستوى مشاركتها في الحراك العربي والأممي بكل اتجاهاته، خاصة وأن المرأة العربية قد لاقت من الويلات ما يكفي عبر تاريخها الطويل، وليس أدل على ذلك أكثر من تحييدها على الصعيد السياسي وبعض النواحي التعليمية والمهنية والاجتماعية، والنظرة العنصرية المقيتة التي ترى في عمل المرأة في بعض الأعمال عيبا يمس الشرف والكرامة! وهذه نظرة قبلية قاصرة تنطلق من سلطة العادات والتقاليد التي تشكلت عبر الزمن، وكونت في ضمير المجتمع العربي نسقا غريبا بلغ أشده حينما اختلط الأمر على كثير منهم عادّين إياه من تعاليم الدين الإسلامي، بينما لا علاقة لذلك في الواقع بالدين وأصوله أو المبادئ السمحة له، وهو ما أدى إلى حصر مزاولة المرأة ومشاركتها في بعض الأعمال بعينها دون غيرها! ويمتد ذلك الحصار وتلك النظرة الدونية إلى كل موقع في العالم الثالث دون استثناء، فوضع المرأة في العالم الثالث ليس مُرضيا على الإطلاق، وما زال محزنا ومأساويا يعكس الثقافة الاجتماعية من جهة والدينية من جهة أخرى، التي تم تكريسها عبر مئات السنين، ويبدو واضحا أن المسيرة الحقوقية للمرأة في تلك المجتمعات، لم تكوّن فكرتها أو قاعدتها المناهضة بعد، نتيجة عوامل الفقر والجهل العميقين ومحدودية أصغر الحريات في صلب ثقافة تلك المجتمعات البشرية، وهو ما يؤكد أن مسافة الطريق شاقة وشائكة إلى أبعد ما يمكننا تخيله، والإحصاءات العالمية لحالات الاغتصاب والاعتداءات الجسدية والنفسية وامتهانها في معظم مجالات الأعمال، تؤكد بما لا يدع مجالا للشك على تعقيد هذه المسألة الإنسانية، وتزيد من هموم المرأة في هذه البقاع من العالم، وها هو الثامن من مارس يمر عليهن قبل أيام قليلة بطعم الخبز اليابس الذي رفعته نسوة قبل أكثر من قرن من الآن، ولكن لا مستحيل مع إرادة المرأة ورغبتها في العالم ككل والعالم الثالث خصوصا، فهما الرهان الحقيقي لتغيير وضعها وواقعها المؤلم، وذاك هو مربط الفرس أولا وأخيراً للمضي قدماً نحو التنفس والعيش بآدمية أفضل وكرامة أكثر.