يقال: (العيد يبان من عصاريه)، وهذا صحيح في بعض الأمور لا كلها. ولو أردنا أن نضرب مثلا عاما، فها هو الزعيم المعروف (تشرشل) وهو الذي أوصل بريطانيا العظمى إلى النصر الكاسح في الحرب العالمية الثانية. كان هذا الزعيم في طفولته وصباه تلميذا بليدا، بحيث إن والده اعتقد أنه لن يستطيع تبني معيشته، وفشل مرتين في دخول مدرسة (هارو)، ورسب في الرياضيات وفي تعلم اللغة اللاتينية. وعلى مستوى تجربتي الشخصية، فقد كان في مدرستنا تلميذ نستطيع أن نطلق عليه لقب (النابغة)، كان أكبر مني سنا وفي صف متقدم، ولكن الجميع يشيرون لاجتهاده وذكائه الخارق، وفي كل صف دراسي كان ترتيبه الأول دائما، وفي الاختبار النهائي للمرحلة الثانوية، لم نتفاجأ عندما حقق المركز الأول على كل مدارس المملكة. وفوق ذلك كله كان ملتزما لا يفوته فرض من صلاة، وعلى خلق وأدب وحياء إلى درجة أن كلامه كله بالهمس، وكأنه (العذراء في خدرها). طبعا حصل على البعثة للدراسة في الخارج بكل سهولة، وسافر وانقطعت عنا أخباره لعدة أشهر، وتفاجأت عندما رجع أحدهم من الدولة التي كان يدرس فيها (النابغة)، أقول تفاجأت عندما قال لي: هل تذكر فلان؟!، انصدمت من سؤاله قائلا: طبعا أذكره، ليه إن شاء الله ما مات؟!، قال: لو كان مات كان أريح له، قلت: ليه يعني (اتكرسح)؟! قال: الموضوع مختلف نهائيا عن تصورك، لقد (هبق) الرجل، سألته: ماذا تقصد بكلمة (هبق)؟!، قال: يعني (داير على حل شعره)، انقلب نهاره ليلا لم توجد موبقة من الموبقات لم يقترفها، قلت له: يعني انطبق عليه المثل القائل: (ما شاف شيء شاف شعر رأس أمه اتجنن)؟!، قال: (بالزبط)، أجبته: لا حول ولا قوة إلا بالله، صحيح الدينا ما لها أمان. ولكي لا أتعبكم أكثر مع (النابغة) فقد فصل من البعثة في السنة الثانية نتيجة لسوء سلوكه وعدم تحقيقه لأي نجاح يذكر في دراسته، وعاد إلى المملكة يجر أذيال الخيبة، ولا أدري بعدها ماذا حصل به، إلا أن أحدهم ذكر لي قبل سنة أو أكثر أن (النابغة) يعمل الآن سكرتيرا عند تاجر عقار غير متعلم بالكاد أن يفك الحرف. كان ذلك النابغة هو مثلي الأعلى في يوم من الأيام، وما أكثر ما كنت أحلم أن أطلع الأول في صف دراسي، أو على الأقل أن أكون من ضمن العشرة الأوائل، وفعلا حقق الله حلمي وطلعت من ضمن العشرة، ولكن الأواخر لا الأوائل.