استطاعت الأندية الرياضية أن تطور نشاطا استثماريا لمداخيلها يعود عليها بمردود مستمر بحيث تغطي الكثير من مصروفاتها واحتياجاتها، وهو الأمر الذي لم تتقنه الأندية الأدبية بعد، ولا أدري هل هذا بسبب جدة التجربة أم أن الأدباء والشعراء يهيمون في أودية عبقر التي تقصيهم عن شارع المصارف والحس الاستثماري. لأن وضع الأندية الأدبية في الوقت الحالي على مستوى المباني والتجهيزات مروع يدعو إلى البؤس ولاينسجم على الإطلاق مع واجهة حضارية لدولة نفطية من أهم دول المنطقة. في كل مرة أذهب إلى النادي الأدبي بالرياض يحاصرني سؤال، هل الفعل الثقافي ينحصر بميكرفون وقاعة مغبرة نملأها بالثرثرة؟ قبل يومين أثناء المحاضرة التي قدمها المستعرب الأسباني المعروف (إيميليو بايسترو ألماسان) في النادي الأدبي بالرياض أحسست بالإحباط والألم، فمن ناحية كان هناك ارتباك في الترتيب كالعادة، فالمحاضر أعد محاضرة لمدة ساعتين من المادة العلمية الثمينة، وفجأة تقلصت الساعتان إلى أربعين دقيقة، فأديرت الندوة بشكل مرتبك كأننا في (سوق حراج).. أي على المحاضر أن يعرض بضاعته ويغادر بسرعة. فهل أحضرنا البروفسور الغرناطي والوفد المرافق له آلاف الكيلومترات ضيوفا لنقتر عليهم دقائق تخبرهم أن المساحات التي نمنحها للفنون والآداب ضيقة ومحدودة؟ لاسيما أن الواجهة التي قدمناها لهم في النادي الأدبي والذي يعتبر أحد مراكز الرياض الحضارية كانت محبطة. فالأسبان حضروا لربوعنا بذاكرة رطبة عن العرب والمسلمين، حيث نفح الطيب وغصن الأندلس الرطيب، أندلسية جادها الغيث إذا الغيث هما.. ونوافيرها وزخرفة جدرانها وبهجة اللون الذي يعانق الحرف وريحانا وظلا ظليلا.. فانتهى بهم المقام في مبنى النادي الأدبي بالرياض الذي أول ما يقابلك فيه عندما تدخل مبنى النادي بئر ناضبة مهملة من زمن طسم وجديس، بينما الستارة التي تعلو المسرح مع بقايا وشذرات لنباتات بلاستيكية متقطعة تؤكد أنها بعض أطلال عاد وثمود وأصحاب الأيكة، المقاعد المتلاصقة في قاعة المحاضرات لابد أن تثني ركبك لتصل إلى صدرك حينما تجلس بها، السجاد المبقع ببقع غامضة لا أدري هل هي آثار مشروبات أو أقدام أو مخلوقات تتسلل ليلا وتمارس حياتها الفطرية هناك؟ وطوال وقت حديث المستعرب الشيق، كان هناك وسط القتامة والكآبة وغلالات الغبار نملة كبيرة (قعس) تروح وتجيء برقصة فلامنكو تحية للحضور الأسباني. الوفد الأسباني المرافق الذي تأثث وعيه ومعارفه عن العرب بمشاهد قصر الحمراء ونافورة الأسود وأقواس الجامع الكبير في قرطبة، ونواعير الوادي الكبير، هدمنا كل هذا أثناء زيارته نادي الرياض! هل أفسد الأحفاد مجد الأجداد؟ وهم الذين ذهب إليهم زرياب فأسس أول مدرسة للياقة والجمال والأتيكيت، علمهم أناقة المعاش اليومي من مأكل ومشرب وملبس. فالذوق والوضاءة والنضارة جزء رئيس من سمات التحضر والجمال، بينما كان البوفيه في النادي الأدبي يبدو كمطبخ عمال محطة بنزين في خط مهجور، والضيافة بدلا من أن تعكس إرث المكان وذوقه وتاريخه كان هناك بعض الأكواب البلاستيكية وشطائر تعافها النفس. أين هي الحكاية التي كانوا يدرسوننا إياها في كتب المدرسة الثرثارة المتنفجة و(التي لاينتقل أي مما علمتنا إلى عقولنا وسلوكنا)؟ حكاية سفراء القوط حينما كانوا يطلبون زيارة خلفاء المسلمين في الأندلس، يأخذونهم إلى إحدى الحمامات العامة العديدة بمدينة قرطبة النضرة، ليصلحوا من شأنههم قبل أن يلجوا بلاط الخليفة الأندلسي؟ النادي الأدبي يتوقع منه الجميع.. بل يجب أن يكون معلما حضاريا للعاصمة، لاتوضع قطعة أثاث إلا لتحكي حكاية وتعكس ثقافة، لا تعلق لوحة إلا إذا قطفناها من صفوة فنوننا التشكيلية، لايدق فيه مسمارا إلا ليعبر عن تراثنا وهويتنا وتفاصيلنا، بينما نجد في النادي الأدبي مجموعة من الأثاث المهلهل الذي ستفكر جمعية الأثاث المستعمل الخيرية كثيرا قبل أن تأخذه. لم نرتكب خطأ بحق أنفسنا تجاه الأسبان فقط، بل قبلهم بأسبوع جلبنا الدنماركيين إلى نفس المكان ومعهم جالية كبيرة من السفارات.. بالطبع الزوار كثر والشق يتسع على الرقعة. لا أعتقد أن مثقفي الرياض يودون أن يصبح ناديهم صيغة مشوهة لقيم الجمال والذوق والفن، ولكل ما يحمله العالم عن المنطقة غموض وسحر الشرق. لنقم بمسؤوليتنا تجاهه، وليدفع كل عضو جمعية مبلغا رمزيا يستثمر ومن ثم يسهم في إحداث نقلة، وتغيير معالم المكان.. الموضوع لايحتاج اختراع عجلة وميزانيات ووزارات وبيروقراطية.. فقط ادفع ريالا تنقذ نادياً.