النسخة: الورقية - دولي تكاد النظرة إلى جمهور «حزب الله» وجمهور النظام السوري تتطابق. التمايزات بينهما تضمحل مع تقدم الحرب في سورية، الخصوم يتعاطون معهما بمعايير متشابهة، وقيادة الجمهورَيْن «الواحدة تقريباً» توحي إليهما بأنهما جمهور واحد له الأعداء أنفسهم، وله المشتركات ذاتها التي تجعله يفترق جذرياً عن محيطه السكاني والاجتماعي. على شاكلة كل حروب الوجود العظمى، يتجه طرفا الصراع إلى الاقتناع باستحالة العيش المشترك، ومن ثم لا بد من حسم الصراع الآن ونهائياً: على الأقل هذا الخيار مطروح بوضوح من قيادة «حزب الله» والنظام السوري بصفته خياراً وحيداً، أي لا شعارات يجري تسويقها عن العيش المشترك، على غرار ما يفعله الخصوم في سورية ولبنان. من جهة الخصوم، لطالما أشيعت تلك الفرضيات عن جمهور مستلَب غير قادر على تقرير مصلحته، جمهور يقع ضحية قياداته التي تستخدمه في ما يشبه عملية انتحار جماعية في حرب غير متكافئة عددياً. قبوله بأن يكون ضحية ناجم عن عوامل تاريخية بعيدة أو قريبة كُتب فيها وعنها الكثير، إلا أن ما كُتب بقي خارج الجمهور المستهدف، ومن غير المتوقع أن يشفع له كثيراً أمام الجمهور المقابل في الحرب الحالية، ومن غير المتوقع أيضاً أن يساهم في نقاش وطني عام مفتَقد الآن وربما إلى وقت طويل. في لبنان لا يندر الحديث عن استعادة الطائفة الشيعية من «حزب الله»، وفي سورية لا يندر الحديث عن تحرير العلويين من سطوة النظام. هاتان المقولتان تجرّدان جمهور الحزب وجمهور النظام من أهليتهما العقلية قياساً إلى الجمهور على الضفة الأخرى. أيضاً تتجاهل هاتان المقولتان شبكة المصالح الواسعة التي تربط كل جمهور بقيادته، وهي بطبيعة الحال تتفوق على التحليلات البعيدة المدى المقدمة لهما. الدفع بالمصالح البعيدة المدى على حساب المصالح الآنية لن يكون مجدياً هنا، لأن من الصعب المجازفة بخسارة ما هو ملموس لحساب وعود غير أكيدة. عموماً، سيكون من الخفة الظن بإمكانية إقناع جمهور الحزب وجمهور النظام بالكفّ عن موالاتهما الجذرية بالتحليلات السائدة عنهما. سيكون من المستبعد تماماً إقناع ذلك الجمهور بأنه مُغرر به، وبأنه يفتقر إلى إدراك مصالحه. مثل هذه النظرة المتعالية والتعليمية يصعب أن تجد آذاناً صاغية لدى أي جمهور. وسيكون من الخفة الظن بأن عدداً أكبر من الضحايا في الحرب الحالية قد يغير اصطفاف الجمهور وراء قيادته، أو قد يدفع القيادة إلى مراجعة حساباتها والنكوص عن الحرب مراعاة لجمهورها. لذا، ليس منتظراً من التوابيت العائدة من معركة يبرود، ولا من الغارة الإسرائيلية الأخيرة على موقع لـ «حزب الله» على الحدود اللبنانية - السورية، أن تغيّر اصطفاف جمهور الحزب حول حربه في سورية. المراهنة على أن تورطاً أكبر للحزب سيؤدي إلى تململ مؤيديه لم يظهر ما يدعمها حتى الآن، وبإمكان قيادة الحزب المباهاة بأنها- في خضم انخراطها في الحرب داخل سورية- تمكنت من تسجيل نقاط سياسية داخلية. فالطرف المقابل لها قَبِل المشاركة في حكومة واحدة بلا شروط مسبقة، ربما باستثناء تنحية ثلاثية «المقاومة والجيش والشعب» من الالتزام الحكومي، أو عملياً إسقاط ذلك مقابل إسقاط تفاهم بعبدا الخاص بسورية، مع الصمت المطبق حيال المحكمة الدولية الخاصة بمقتل الرئيس رفيق الحريري. خلاصة ما يقدّمه الحزب لجمهوره، من خلال هذه المعطيات، أنه قوة لا يمكن تهميشها تحت أي ظرف، تساعده في ذلك تصريحات الخصوم حول العيش المشترك، والتي يبدو أنها تتوسله بأي ثمن، وتراضيه تحت الضغط، بدل السيناريو الكارثي الذي يُنذر بحرب أهلية جديدة. بهذا المعنى يكسب الحزب ببقائه خشبة الخلاص الشيعية الوحيدة، وكل ما يُقال عن مشروع الدولة يبقى بلا صدقية أمام ملايين الدولارات التي أنفقها الحزب على دولته الخاصة. التركيز على جمهور «حزب الله» سيكون مدخلاً مفيداً لفهم مؤيدي النظام السوري. ففي لبنان هامش من الحريات يتيح لصعاليك الطوائف فرصة الخروج عنها ونقدها. تلك المخاطرة ليست مجانية لكنها غير متاحة في سورية بسبب المركزية الشديدة للنظام واحتكاره المطلق لتمثيل موالاته. ثمة فارق آخر مهم: الطائفية في لبنان أسبق بكثير من وجود «حزب الله»، بينما الطائفية السورية ملتصقة بالنظام وإن لم تتأصل سياسياً على النموذج اللبناني بعد. لذلك يلتبس المستوى الطائفي السوري بالسلطة تماماً، فلا وجود لدولة ضمن الدولة. هي الدولة بكليتها مطرح الصراع، وخسرانها يعني خسران شبكة المصالح المرتبطة بها، حيث لا وجود أصلاً لشبكة مصالح خارجها. في الحالتين، ذلك لا يعني الانتفاع المباشر لأفراد الجمهور جميعاً من المصالح الحالية، فهذا يبسّط فهم عقلية الجموع ويبتذلها إلى مستوى الارتزاق المباشر. وهو بالتأكيد لا يفسّر ما يُحكى عن سلوك انتحاري على المدى البعيد. ما يتحرج النقاش الثقافي عن قوله هو أن حرباً من هذا القبيل يصعب أن تنتهي على صيغة «لا غالب ولا مغلوب»، وفي التجربة اللبنانية مثل على فشلها باستمرار الحرب الأهلية بوسائل مختلفة منها التهديد بالسلاح. الرهان على تسليم كل الأطراف طوعاً لمشروع الدولة، رهان ثقافي أيضاً، وهو يقطف ثمار الديموقراطية من وعي عام متخيل يقتنع به الجميع أو يذعنون له بحكم الضرورة، أي أنه لا يرتكز إلى قوة ملموسة تحمل مشروع الدولة المعاصرة، وتمتلك قوة الإرغام الضرورية لأية دولة من دون أن تكون قوة قهر لمواطنيها. مع أن الجهد الثقافي ضروري، ولا تُنتظر منه نتائج مباشرة، إلا أنه قد يفترق عن الراهن الذي يتطلب أدوات سياسية ملحة. ضمن ذلك سيكون مؤسفاً القول إن ما يبدد تماسك أية عصبة سياسية هو انكسار القوة الحاملة مشروعها. هذا المآل هو الذي يدفع بها إلى البحث عن خيارات بديلة. مغازلة القوة أو مساومتها لن تدفع المصطفين حولها سوى إلى مزيد من الإيمان بها والتمحور حولها. لذلك قد يقدّم سقوط النظام في سورية النموذج الأفضل للبنان، أما التسوية معه فليس من شأنها إلا أخذ سورية إلى ما يشبه الاستعصاء اللبناني.