يتحدد مفهوم «الحرية» في المجتمعات والمطالبة بتحقيقها حسب وعي الأفراد، ومدى استشعارهم بما يمكن أن تحققه لهم «الحرية» من مصالح شخصية، وأخرى تعود بالنفع على مجتمعاتهم. فالإنسان وجد على هذه الأرض حراً بكامل الصلاحيات التي كفلتها الشرائع والقوانين المدنية «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟!». لكن ما يحدث أحياناً، وياللغرابة!! هو الخوف من نيل تلك «الحرية» ومقاومة كل ما من شأنه الدعوة إلى تحققها. إن السبب وراء خوف الناس من تحقق بعض المطالب التي تضمن قدراً من الحرية في الحقوق الشخصية وإيقاف الهدر الإنساني، ليس، جُلّه، لاحترازات أخلاقية أو عن وعي متبصر بأسباب الرفض، وإنما ترجع كثير من مبررات الرفض لجملة إشكاليات تناولها المحلل النفسي إيريك فروم في كتابه «الخوف من الحرية» يمكن تحديد أبرزها في التالي: أولاً: اعتياد الإنسان على وجود نظام «أبوي» سلطوي (أفراد أو مؤسسات)، يتولى بنفسه مهمة القبول أو الرفض وإصدار القرارات، فيكون بذلك «الإنسان» بعيداً عن تبعات تحمل مسؤولية حرية الاستقلال، مذعناً للاستجابة في كل الأحوال. وهذا إن جاز لنا استعارة وصف «فروم» في كتابه المذكور، يأخذ شكل «المازوخية»!! يمكن تلمس مظاهر هذا الشكل في وضع المرأة في مجتمعاتنا، فهي وإن كانت عاقلة راشدة إلا أنها وبعد رحيل أو تخلي زوجها، تستأذن في كل تحركاتها «البريئة» ابنها الذي ما زالت تتولى رعايته، ولا يستطيب لها ذهاب مهما كانت حاجتها إليه، إلا حين تستأذنه بوصفه البديل عن النظام الأبوي الغائب، على الرغم من أن كثيراً من الأبناء يخجلون من مطالبة أمهاتهم بذلك. الشأن كذلك في بعض الإدارات التي تتولى مسؤوليتها المرأة، فهي وإن كانت تملك كامل الصلاحيات والاستقلالية في اتخاذ القرار، إلا أنها تصر في كل قرار تمريره عبر «رجل» يمثل بالنسبة لها سلطة ومصدر أمان يعفيانها من تحمل تبعات حرية اتخاذ القرار التي ترفضها في أعماقها دون أن تدري، وإن كانت تطالب علناً عكس ذلك. كما يمكن العثور على هذا الشكل «في الخوف من الحرية» بعدد الفتاوى المهول غير المبرر، الذي يرد كل حين على برامج الإفتاء المكتسحة للقنوات وعبر الاتصالات. فعلى الرغم من أن الأصل هو الحلال إلا ما نُصَّ على تحريمه، وأن الإرشاد الإلهي يقول «لا تسألوا عن أشياء إن تبدَ لكم تسؤكم» إلا أن بعض الناس يصر على أن الأصل هو العكس!! فيطلب الفتوى في كل صغيرة وكبيرة، ملغياً بذلك الحرية التي منحها الله له في تقييم القبيح والضار للأمور التي ما أنزل الله فيها نصاً بالتحريم «استفتِ قلبك». ثانياً: يأتي الخوف من الحرية في حاجة الإنسان، كما يقول إيريك فروم في كتابه المذكور، إلى التعلق بعالم خارجي يمثل بالنسبة له مصدر أمان، ومحاولته تجنب الوحدة والإقصاء بمخالفتهم حتى في الرأي، وهذا العالم الخارجي، يرفض، في الغالب، القبول بمجمل أشكال الحرية، حتى تلك التي تحيل المؤسسات العليا في الدولة صلاحية رفضها أو قبولها إليه!!! يأتي هذا الرفض تحت وهم الأمان بأفضلية الثابت المستقر، والخوف من أشكال الحرية والتغيير والطارئ والمجهول في مجمله. ف «الجديد» غالباً، يشكل مصدر تهديد لأمانهم القديم. يمكن التمثيل على ذلك بأولئك الأفراد الذين يرفضون ويقاومون بكل شدة وتعسف، ومن دون وعي أو استبصار، كل دعوات تطالب ب «الحرية» المعتدلة، وتحقق المصلحة، وتوقف من هدر الإنسانية. ويأتي رفضهم هذا من قبيل الاستجابة لرأي المجموعة، وشعورهم بالأمان في عدم تفردهم عنهم في الرأي. مثل دعوات قيادة المرأة للسيارة، وإسقاط الولاية «في بعض المسائل» التي ما أنزل الله بها من سلطان، وكانت من قبيل العُرف الاجتماعي الاستبدادي.