"الحقيقة هي أول ضحايا الحروب" هكذا قال الروائي المسرحي التراجيدي اليوناني اسخيلوس قبل نحو أكثر من نصف ألفية سبقت ميلاد السيد المسيح، لكن وبعد أكثر من ألفيتين من الميلاد، لا يزال البعض (وعلى الأخص بعض الناطقين الإعلاميين لأطراف النزاعات والحروب) يصر على تأكيد هذه المقولة عبر ظهور هزلي يكشف مدى الضحالة الفكرية، وكمّ الأكاذيب التي يسوقونها عمدا أحيانا، وجهلا أخرى. وكان الناطق الإعلامي باسم الحوثيين، الناطق باسم ما يسمى "القوات المسلحة والأمن" العقيد شرف غالب لقمان، وكذلك ناطق المؤتمر الشعبي اليمني العام التابع للمخلوع على صالح والمدعو عبده الجنيدي، آخر المنضمين إلى كوكبة النجوم الهزليين من الناطقين الإعلاميين المتحلين بأداء تمثيلي سيئ، والمعروفين بكذبهم المكشوف الذي تحول ميدانا جليا للتندر. وكان وزير الإعلام العراقي في عهد صدام حسين، الوزير محمد سعيد الصحاف أبرز النماذج لإدارة الحرب الإعلامية خلال الغزو الأميركي للعراق عام 2003، حيث كان "رائع الأداء" على حد وصف الرئيس الأميركي حينئذ جورج بوش، الذي كان يقطع اجتماعاته ليتابع بيانات الصحاف التي كان ينفي فيها بشكل مستمر ومتواصل أي تقدم عسكري أميركي، فيما كانت الدبابات الأميركية تمضي خلف ظهره وعلى بعد نحو 400 متر منه فقط وسط بغداد. وإلى جانب الصحاف العراقي، برز صحاف ليبي تمتع بثقة كبيرة بالنفس وبرودة مؤثرة حتى في أحلك الأوضاع، وهو موسى إبراهيم، الناطق الرسمي باسم نظام القذافي. وفي مكان آخر من أماكن الصراع، برز اسم الناطق باسم الخارجية السورية جهاد مقدسي (انشق لاحقا عن النظام السوري)، خلال حملة السلاح الكيماوي، فأضاف لقب "جهاد الكيماوي" إلى سلسلة ألقاب أخرى سبق أن أطلقها الناشطون المعارضون في سورية عليه خلال رحلة تسلقه السريع للسلم، على حساب المستشارة الإعلامية في الرئاسة بثينة شعبان، ووزير الخارجية وليد المعلم، حيث دأب على تلميع صورة نظام الأسد، وتسويغ سياسته القمعية تجاه شعبه. ألقاب كثيرة أطلقها نشطاء المعارضة الذين اعتبروه ليس أكثر من صحاف يرتدي قفازات حريرية لتلميع صورة نظام الأسد وتبرير مجازره الوحشية. ومقابل الحضور الطاغي للصحاف العراقي وإبراهيم الليبي ومقدسي السوري، جاء حضور الناطقين باسم طرفي الانقلاب على الشرعية في اليمن هزليا، ينم عن جهل فاضح، وعن عورات كثيرة في الفهم المعلوماتي العسكري وغيره. عسيري يقدم الصورة المدعمة بالحقائق من المتعارف عليه دوليا، أن الناطقين الرسميين، سواء كانوا عسكريين أو مدنيين، يجب أن تتوافر فيهم على عدة شروط، منها الاطلاع الواسع، والثقافة والفصاحة، وسرعة الفهم والبديهة، والدقة في تحديد المواضيع التي يتحدث عنها، وربما كذلك إجادة أكثر من لغة، وفهم معاني المصطلحات، خصوصا العسكرية منها، وهذا ما قدمه كنموذج المتحدث الرسمي لقوات التحالف اللواء أحمد عسيري، خلال إدارته العملية الإعلامية في حرب استعادة الشرعية في اليمن، على النقيض تماما من ناطقي طرفي الانقلاب لقمان والجنيدي اللذين لم يفشلا أمام الكاميرات بأكاذيبهما وافتراءاتهما وحسب، بل وكذلك بلغتهما الرثة، وكلماتهما الخارجة عن الأدب واحترام العقول والمشاهدين، إضافة إلى هشاشة معرفتهما وإلمامهما، وميلهما أحيانا إلى الأداء التهريجي. سذاجة لقمان تسقط بارجة بصاروخ كاتيوشا دأب لقمان على إطلاق تعليقات تجمع بين الجهل والسذاجة والغباء، ففي أول مؤتمراته الصحفية قال "قامت منظمات ودول بعثت بطائرات إغاثة ومساعدات لليمنيين، وسمحنا لها، وتم الاتفاق والتنسيق مع القوات الجوية اليمنية لعدم فتح المضادات الأرضية والتوقف كليا عن أي إطلاق أثناء دخول تلك الطائرات، لكن نجد أن العدوان السعودي استغل دخول طائرات الإغاثة والمساعدات، وكان يدخل بمرافقتها أو بموازاتها ويستظل إما تحت أو جانب طائرات الإغاثة، طبعا تعرفون طائرات الإغاثة والمدنية كبيرة، بينما الطائرات الحربية صغيرة الحجم، فيأتي تحت الطائرة فلا يظهر في الرادار يعني الرادر يبين كتلة واحدة أنها تتحرك، بينما هي مرافقة أو ملاصقة أو خلف أو شمال، تنزل الطائرة للمطار بينما تذهب هذه الطائرات لتنفيذ مهام تدميرية". وفي تصريح آخر، كشف لقمان أنه لا يعرف أسماء الأسلحة، خصوصا في حديثه عن صواريخ "باتريوت"، حيث قال مستخدما اللهجة المصرية "ما حصلش من يوم بدت الحرب صدوا صاروخ واحد رغم وجود "الباريوت" الأميركي في كل منطقة، أميركا تبز السعودية وهم أغبيا ملقين زلط وبس (أي فلوس)". وشرح لقمان آلية عمل الصواريخ بطريقته، فقال "الصاروخ أول ما ينطلق يخرج من الغلاف الجوي والجزء الأخير ينفصل خلص الوقود، وبعدين يخرج من الغلاف الجوي ثم يعود ينفصل الجزء الثاني ويستمر بقية الوقود الصلب إلى هدفه، نحن اليمنيين طورنا أنا أتحداهم أنهم قد أسقطوا صاروخ باتريوت يجي يلاحق الصاروخ لما قدهو فوق الهدف يجيك يطرح فوقه يبقى بدل الصاروخ صاروخين والحمد لله نحن تحديناهم ما فيش صاروخ ما ضرب هدفه". وتحدى لقمان العالم، وقال في مؤتمر آخر "استهدفنا 8 بوارج ما كنا نحلم ببارجة، استهدفناها بمنظومة صواريخ موجهة، غير الصواريخ اللي ما استعملناهاش، الغريب في الأمر إحنا طورنا منظومة الكاتيوشا، الآن الكاتيوشا اللي معانا تستطيع الوصول حتى 70 كيلو، لأول مرة في التاريخ العسكري نستهدف بارجة ونغرقها بصاروخ كاتيوشا أتحدى أنه في مكان في العالم ما عدا في اليمن يحدث هذا". و"يشطح" لقمان لاتهام التحالف باستخدام الأسلحة الكيماوية، متحدثا عن جنوده بالكم وليس العدد، فيقول "وجدنا كمية من الجرحى اللي راحوا للمستشفى حصلت لهم ثقوب في الرئة مدري أو في الكبد يعني ماعاد أذكر، هذه الثقوب تدل أنه سلاح كيماوي". ويواصل شطحاته في موضع آخر، فيقول "ما فيش صعوبات، ونقولها الآن مسألة دخول المدن الكبيرة مثل نجران وجازان وعسير محتاجة لقرار سياسي، وعندما يوجه لنا القرار السياسي سندخل، ونحن قادرون على التحرك والزحف السريع ليس بآلياتنا، فلدينا من الآليات ما هو أحدث ولكن على أرجلنا حتى الوصول إلى الرياض، لدينا قيادة تدرس الإستراتيجيات والخيارات والتوازنات الدولية". وواصل لقمان تناقضاته، فقال بعدما تحدث عن قرار سياسي لدخول المدن السعودية الكبيرة "نحن الآن مسيطرين على نجران وجازان، صح لسنا موجودين داخل مدينة جازان ونجران، ولكن نحن حواليها ومسيطرين على الخوبة، السيطرة بأيدينا حاليا". الجنيدي يضع الانقلابيين على بعد يومين من السيطرة على الرياض بشكل مدوٍّ بدأ الجنيدي أحد مؤتمراته، قائلا "الرياض باقي لها يوم يومين ونسيطر عليها". وبدا الجنيدي عاجزا عن التفريق بين أسرار غرف النوم واللقاءات المتلفزة، ففي أحد حواراته الفضائية يقول "أنا أتكلم عن نفسي وليس الحزب لأنه سيحاكمني يا أختي أنا خايف على نفسي وعيالي أنا خرجت من بيتي وزوجتي تمسك لي صميل أوعا تتكلم ولا تقول ولا تعمل لأنها خائفة لا ننتهي كلنا". ويضيف في حديث أراد به بث الحماسة في الانقلابيين "هل تعرفي أن هذه الحشود التي تخرج كل يوم تبايع السيد عبدالملك الحوثي وتؤيد القرارات الإستراتيجية هؤلاء سيقاتلوا حتى يقتلوا أو يموتوا". وأراد الجنيدي أن يمتدح عبدالملك الحوثي لكنه جعله متقلب الآراء والمبادئ، جاعلا من أمين حزب الله اللبناني حسن نصر الله قدوة له، فقال "سمعت كلمة السيد عبدالملك الحوثي هو رجل سياسة متطور، خطاباته فيها تطور، فيها تجديد عندما ينظر لآخر خطاب يجد بينه وبين أول خطاب مفارقة كبيرة، هذا دليل أن الرجل في حالة تطور وتغيير في أفكاره وأطروحاته، وهو يحاكي السيد حسن نصر الله، بالتأكيد عندما يكون الإنسان له قدوة والسيد نصر الله من مشاهير العرب والمسلمين". ومثل لقمان، يسقط الجنيدي في كم كبير من المتناقضات، فيقول في أحد مؤتمراته "مجلس الأمن لو اتخذ قرارات تعاقب رئيس المؤتمر سيكون مؤتمر ثاني غير اللي عرفوه يلجأ إلى كل الوسائل طبعا بنقول السلمية مش بنقول العنف، سنلجأ إلى العنف، المؤتمر المطيع المسالم سيتحول إلى شيطاني ما قدروا لصاحبكم الحوثي يرجعوا على صاحبنا المسكين داخل بيته". كما أراد الجنيدي أن يمتدح صالح فوصفه بـ"التيس" حين قال "علي صالح استقطبه إبراهيم الحمدي وكان يقول إن علي صالح تيس الضباط رجل ذكي ونشيط". كما لا ينكر الجنيدي الميل إلى الوجود الإيراني، فيقول "الفرس تحولوا مسلمين وبالتالي يد إيران ممدودة إلى العرب لتحرير فلسطين، حزب الله اللبناني أصبح آية من الآيات التي تبعث على الفخر والشعور بالاعتزاز، هو الوحيد الذي ركع إسرائيل وأجبرها على الانسحاب من جنوب لبنان". إبراهيم شاب وسيم يدافع عن القذافي بالأكاذيب وقف الناطق باسم نظام القذافي، موسى إبراهيم أمام كاميرات العالم ليرد على أسئلة صحفيين حربيين مخضرمين، ثابتاً في مواقفه وتمسكه بتأييد نظام القذافي ظالما أو مظلوما، متمتعا بقدرة بارعة على مخاطبة الرأي العام العالمي، وحتى عندما بدأت العاصمة طرابلس تتهاوى أمام زحف الثوار خرج إبراهيم على شاشات التلفزيون ليؤكد أن القذافي ما زال يسيطر على العاصمة، وأن ما هنالك سوى بعض المتسللين في منطقة أو اثنتين وفي خلال يومين كان الثوار يقتحمون باب العزيزية، ورغم اختفاء إبراهيم عن الشاشات الفضائية، إلا أنه ظهر مجددا في تسجيلات صوتية مجددا ولاءه للعقيد القذافي ومعتبرا أن الحرب ما زالت متواصلة، واعدا الليبيين بالنصر. والغريب في "صحاف ليبيا" أنه ليس من الحرس القديم وليس قائدا عسكريا، بل هو شاب مدني وسيم وأنيق ومثقف متزوج بألمانية وله طفل، وسنه لا تتجاوز 37 سنة، أي أنه من جيل سيف الإسلام القذافي، وقد أقام 12 سنة في بريطانيا وتأثر بفكرها اللبيرالي، حيث درس هناك بجامعة العلوم السياسية والاقتصادية، وكان بصدد الانتهاء من رسالة دكتوراه في فنون الإعلام، ولكن يبدو أنه فضل أن يمارس فن الإعلام والدعاية عمليا خلال هذه الحرب الأهلية، متحديا كبريات القنوات الإعلامية العربية والغربية، ومحاولا إلباس القذافي وأبنائه لباس الضحية. المقدسي وجه أنيق لتجميل صورة البشاعة عندما لوح الناطق باسم الخارجية السورية جهاد مقدسي باستخدام السلاح الكيماوي، أضاف لقب "جهاد الكيماوي" إلى سلسلة ألقاب أخرى سبق أن أطلقها الناشطون المعارضون في سورية، والذين اعتبروه "صحافا" يرتدي قفازات حريرية لتلميع صورة نظام الأسد وتبرير مجازره الوحشية. ومن الألقاب التي نالها "فتى النظام" و"رجل الدبلوماسية المقاوم" و"جيمس بوند الأسد" و"موسى إبراهيم الأسد"، وصولا إلى "جهاد الكيماوي". مؤيدو النظام، وبالأخص الشبان، رأوا فيه نموذجا "للشخصية الناجحة والواثقة"، كما جذبت وسامته الصبايا، لا سيما بنات منطقة القصاع ذات الأغلبية المسيحية التي نشأ مقدسي فيها وتعلم في مدارسها. جهاد مقدسي مسيحي دمشقي، حائز على إجازة في اللغة الفرنسية، ودراسات عليا في العلاقات الدولية والإدارة، وماجستير في الدبلوماسية من جامعة وستمنستر البريطانية، ودكتوراه في الدراسات الإعلامية من الجامعة الأميركية – لندن. حصل على عمل في وزارة الخارجية عام 1998 من خلال صلات والدته مع زوجات كبار المسؤولين في الدولة، والقصر الرئاسي، وعام 2000 عين في السفارة السورية في واشنطن. إحدى زلات مقدسي الفادحة ما كتبه على صفحته على "فيسبوك" تعليقا على الأحداث الدامية في مخيم اليرموك الفلسطيني، ووصف فيه اللاجئين الفلسطينيين بـ"الضيوف الذين لم يلتزموا بأدب الضيافة". وأطلق مقدسي سلسلة تصريحات كاذبة من قبيل أن "سورية ستخرج من الأزمة أقوى، وستكون نموذجا للديمقراطية في المنطقة"، وأن "تغيير مهمة السيد أنان أمر ليس بيد الوزراء العرب.. هي أمنيات يطرحونها بهكذا اجتماعات عنوانها الكبير نفاق سياسي"، و"من يستخدم الصواريخ هو الطرف الآخر وليس نحن لأننا في حالة الدفاع عن النفس"، و"الحكومة لم تستخدم لا الطائرات ولا المروحيات ولا الدبابات ولا المدفعية، في التريمسة.. ما استخدمناه في هذا الهجوم أسلحة خفيفة، وأقواها كان قذائف (آر بي جي)، وما تم العثور عليه في التريمسة هو كميات كبيرة من الأسلحة وعبوات ناسفة".