النسخة: الورقية - دولي تلك الصورة لا تُنسى. نهر كبير من البشر المتراصين وسط شارع عريض محاط بالأبنية المدمرة. ليست ركاماً كاملاً، فما زالت هياكلها منتصبة، لكنها جميعاً، وعلى مد البصر، مبقورة ومتروكة. الصورة نشرتها هي نفسها كل الصحف قبل أيام قلائل. وزعتها «أونروا». صورة وحيدة، مصحوبة بتعليق شبه موحد يقول إنها لـ «سكان مخيم اليرموك للاجئين في دمشق (وهم) ينتظرون توزيع مساعدات غذائية». الشارع ترابي ومهدوم، لكن وجوه الناس وهيئتهم تتناقض مع خصائص المكان. هادئون و «مرتّبون»، بملامح محيِّرة، لا يمكن وصفها بالبهجة ولا هي تحمل غضباً ولا استسلاماً أو استعطافاً. محايدة. رجال ونساء مختلطون، بالغون يغيب عن جنباتهم الأطفال والطاعنون في السن. متجانسون. تلتقط الصورة هذا الاحتشاد المنتظم بدقة لافتة، فيما هو يتجه في وجهة واحدة، بلا أي خروج عنها. لعل هذا ما يذكِّر بمجرى النهر. بقي في المخيم عشرون ألفاً، كانوا جميعاً هنا. بعد ذلك ترد التفاصيل: وزِّع 450 طرداً غذائياً. تقول «وكالة الأمم المتحدة لتشغيل اللاجئين وغوثهم» إن عملية حسابية بسيطة تظهر المفارقة: «هذه قطرة في محيط». لم تخترع السلطة السورية شيئاً، لطالما كان التجويع سلاحاً في الحرب. وبدقة، هو ليس فحسب نتيجة للحروب، بل إحدى أدواتها. لتحقيق غايات أو للعقاب، أو لكليهما معاً. قديماً وحديثاً وفي كل القارات، بلا استثناء لأوروبا الحديثة المتحضرة، وليس القصد فحسب ما ارتكبه النازيون في معسكرات الاعتقال. حدث التجويع في حروب الإخضاع الاستعمارية، وفي حروب التطهير أو الإبادة العرقية. ولكن ما اسم الحرب الجارية في سورية حتى يطاول التجويع مخيم اليرموك لصيق دمشق المترفة، وأحياء حمص القديمة، وسواهما... التجويع مخالف لاتفاقات جنيف الرابعة وملاحقها، لكن السياسات المُعلنة لمنظمات الإغاثة الدولية متّفقة على التذكير بذلك، من دون وضع الإقرار به كشرط لإيصال المساعدات. يعني انتهاز أي فرصة لإيصال الغذاء لمن يتضور جوعاً، أو يموت من الجوع. قبول التسويات ولو كانت عرجاء، ولو كانت الطرود الغذائية لا تكفي الجميع، ولا تدوم سوى لأيام. هي تسوية مع البربرية! *** «أربعة دنانير من الـــذهــب». تلك هي الجزية التي فرضها «أمير داعش» على الذكور من «نصارى» الــرقة الـــذين قـــرروا، بعد التشاور في ما بينهم، قبول أحكام الذمة، وهي تتضمن لائــــحة من الشروط المحددة بالتفصيل الممل (فمثلا ًالكنائس القائمة تُحمى ولكن يُمنــع ترمـــيمها وصيانتها وبناء سواها، وقــس على ذلك... وصــولاً إلى فــــرض الحشمة على مـــلابس النساء. لائحة طويلة تجدر قراءتها). ولأن الرجـــل عـــادل، فــهذا المبلغ محدد على الأغنياء، ونصفه على متوسطي الحال، ونصف ذلك أيضاً على الفقراء: دينار ذهب، لو صحَّت الحسابات. كم يعادل بالدولار اليوم؟ ولم يحدد «عهد الأمان» تفاصيل من قبيل العملة- البلد التي تتبع لها تلك الـــدنـــانير الذهـــبية. وهل تصلح الليرة الإنكليزية المسماة «ملك»، وهي من الذهب، أو تلك الأخرى «العثمـــلية»، وهما ما زال الناس حين يقْدرون يتهادونهما بمناسبة الزيجات والولادات. ثم هـــل تُجبى تلك كل عام أم لـــمرة واحـــدة؟ وهـــل يُحسب الـــعام هجرياً أم ميلادياً؟ وماذا لو كان المرء مدقعاً في الفـــقر، ولا يمـــلك دينـــاراً من الذهب عن نفسه وعن كل ذكر من عائلته؟ يا للحيرة، على المختصين مراجعة كتبهم لتحديد كل ذلك، فلا نبقى في 2014، وفي زمن التواصل الإلكتروني، في غموض مضر بالأمان. *** أكثر من ثلاثة آلاف وثلاثمئة قتيل في شهر (هل حقاً الأمر قابل للحساب بهذه الصورة الدقيقة وسط تلك الفوضى العارمة؟). تلك حصيلة الحرب بين «داعش» و «النصرة». وما زال أمراؤهم يتبادلون الإنذارات ويصْدرون بيانات تعطي مهلاً من أجل كذا وكذا، وإلا فهناك «مُرٌّ علقمٌ» سيذيقه واحدهم للآخر. وما زالت تُرصد حشود واستعدادات لحروب داحس والغبراء داخل داحس والغبراء أكبر فأكبر. كيف يمكن لمن يتقاتل على هذه الصورة، ويتبادل إيقاع القتلى بهذه الأعداد، أن يطالب بعد ذلك بمساءلة السلطة عن 175 مسلحاً قضت عليهم بلمح البصر في مكمن قبل أيام، وعلى ذلك سجلت الواقعة في شريط فيديو بثته التلفزات ويوتيوب، وتفاخر به أهله بوصفه انتصاراً. السلطة والمسلحون، يريد كل طرف إبادة الآخر، لذا لا يشكو ولا يحسب عدد قتلاه، ولا يأبه. هي حرب حتى النهاية. وحده طرف ثالث، متمثل بالناس وببعض التنظيمات المدنية، يتألم، ويندد، فيبدو منطقه أكثر فأكثر... خارج الصدد! *** كل ذلك يؤكد أن سورية تحولت إلى أرضٍ خلاء تدور عليها أغرب الأشياء وأفظعها في آن، بينما يعلن المفوض الأعلى لشؤون اللاجئين في الأمم المتحدة أمام جمعيتها العامة أن نحو 2.5 مليون سوري أصبحوا مسجلين الآن لدى المفوضية كلاجئين في دول مجاورة لسورية، وأن هناك أكثر من تسعة ملايين شخص يحتاجون لمساعدة عاجلة، أي ما يقرب من نصف عدد المواطنين. ما نهاية كل ذلك، ومتى وكيف؟ بين التخطيط أو الغرَض العقلاني، مهما كان سينيكياً أو متوحشاً، وبين نتائج الفعل كما ستتحقق، هناك فجوة لا يملك أي كان حسابها. الحرب في سورية اليوم ما زالت محتواة إلى حد بعيد، على رغم أن بعض شراراتها وبعض تأثيراتها يطاول محيطها بل العالم (انظر قلق الأوروبيين من عودة مواطنيهم الذين تدربوا في سورية على صنع القنابل والقتال)، وعلى رغم محاولات الطرفين الدمويين، السلطة وتلك الجماعات، الخروج بها عن حدودها، كلٌّ منهما حين يضيق الخناق عليه، أو لاعتبارات «أيديولوجية». لكن خراب سورية على تلك الصورة المهولة، وإن لم يمتد، هو خرابنا جميعاً.