تكشف الكاتبة الروسية ناتاليا فيكو في رواية «جسد أسود، أبيض، أحمر»، (المركز القومي للترجمة/ القاهرة، ترجمة علي فهمي عبد السلام، ومراجعة سارة محمد رفعت) ملمحاً لا نتوقف أمامه كثيراً. فدائماً ما ننشغل بما حققته الثورة من إنجازات، وبالفساد الذي قامت لتواجهه، لكننا لا نسأل عن مصائر هؤلاء الذين كانوا يحكمون ثم خرجوا من المشهد، فهل استسلموا لعزلتهم بعيداً من الأضواء، أم سعوا إلى الاإنتقام ممن أفقدوهم كل شيء؟ حاولت الرواية الإجابة من خلال 21 فصلاً توزعت على قسمين، ومن ثم اختارت الكاتبة لعملها أن يكون من قلب الأحداث، إذ إن بطلته؛ إيرينا ياكوفليفنا؛ هي ابنة وزير الحربية في حكومة آخر القياصرة الروس، وهو نائب رئيس الحكومة الانتقالية بعد الثورة، قبل أن يقتله البلاشفة. فقدت إيرينا كذلك زوجها راكيلوف على أيدي رجال الحزب البلشفي، ودخلت السجن، ثم خرجت منه بمعجزة، وفرَّت إلى فرنسا، حيث عملت مع صديقتها لينوتشكا في غسل الصحون، ثم عارضة أزياء، قبل أن تلتقي الكونت نيقولاي الذي يغرم بها ويتزوجها. وفي حفلة في سفارة بلدها تلتقي أحد الأربعة الذين قتلوا زوجها الأول، ومن خلاله تصل إليهم وتقتلهم على رغم المراكز السيادية التي كانوا يتحصنون خلفها. كانت شخصية إيرينا المعادل الفني الذي حمَّلَته ناتاليا فيكو كراهيتها للثورة الروسية، اتساقاً مع أدبيات غربية ترحب بمثل تلك المشاعر، فضلاً عن أنها - مواليد 1955 - من الجيل الذي عانى من «نار الشيوعية» التي لم تقدم سوى الفوضى والألم. ناتاليا؛ لم تقدم عملها من خلال النتائج المترتبة على سقوط الاتحاد السوفياتي، ولكن عبر ما ترتب على دمج الناس في رؤية الحزب الشيوعي، فضلاً عن التنكيل بالطبقة الحاكمة في عهد ما قبل البلاشفة، بدعوى استئصال البرجوازية لتحقيق العدالة الاجتماعية. في هذه الرواية لا نجد كثيراً من الشخوص، وفي المقابل هناك ملحمة طويلة من الأحداث المتنوعة. الجزء الأول ترصد فيه المؤلفة نهايات روسيا القيصرية، عندما سيطر راسبوتين على القيصر وزوجته ألكسندرا، ووقعت الهزيمة الفادحة أمام الألمان في الحرب العالمية الأولى. ومن ثم تعاون بعض أفراد الأسرة المالكة للخلاص من راسبوتين بوصفه الحائل بينهم وبين تقديم النصح للقيصر. لكن موت راسبوتين لم يفتح الباب إلا على مزيد من التيه والتخبط وإثارة الجماهير، التي نزلت إلى الشوارع، فتشكلت حكومة انتقالية، كان والد إرينا عضواً فيها. ينتهي الجزء الأول بمقتل والد إيرينا وزوجها وكثير ممن عرفتهم، في أوار الحرب الأهلية بين البلاشفة والموالين لحكم القياصرة. في الجزء الثاني، نجد إيرينا عازمة على الانتقام، ممن قتلوا زوجها أمامها. لكن الانتقام لم يكن موجهاً لأشخاص، بقدر ما هو اعتراض على ثورة أو انقلاب أتى بالرعاع إلى الحكم، وأطلق أيديهم بطريقة بربرية في معاقبة الناس ومحاسبتهم على ثقافتهم الأرستقراطية. فمثلما كانت الثورة البلشفية هي رغبة في الانتقام من القيصرية وشتى تجلياتها باسم محاربة الفساد ومواجهة البرجوازية، كانت ثورة إيرينا ياكوفليفنا مضادة لهذه الثورة، واعتراضاً على وصول مثل هذه الشخوص إلى الحكم. ومن ثم أفرطت الكاتبة في رصد مشاهد القسوة والوحشية التي تعاملت بها الثورة مع الناس، كما أفرطت في رصد الأخطاء وتكبيرها ليبدو الحكام الجدد أجلافاً لا يفهمون في اللياقة ولا في الفن، في حين جاء الكونت، نيقولاي الذي تزوج إيرينا، بوصفه منتمياً إلى الثقافة الراقية، مهذباً ومحباً للفنون ومحافظاً على الذوق العام ويفهم في كيفية التعامل مع المرأة واحترامها. هكذا وضعت الكاتبة القارئ أمام مقارنة بين ثقافتين، الأولى تنتمي إليها، والثانية تخص «الطبقة السفلى» التي أتت بها الثورة إلى سدة الحكم، وسمحت لها بمحاسبة الجميع على أنهم كانوا برجوازيين، تعلموا تعليماً جيداً، ويعرفون ثقافات متباينة. وتبدو في النص لغة الكراهية للثورة والفكرة الاشتراكية، حتى أنها صوَّرت نقاد هذه المرحلة بوصفهم سرقوا أدب روسيا القيصرية ووضعوا عليه شعارات الواقعية الاشتراكية والاشتراكية الثورية وغيرهما. في الجزء الأول؛ نجد أنفسنا أمام فكرة حقيقية دفعت المؤلفة إلى الكتابة، إذ رصدت معالم روسيا القيصرية وهي تترنح في عامها الأخير، ومن خلال فكر ورؤية الطبقة العليا فيها. لكن الرواية في الجزء الثاني تحولت إلى عمل بوليسي غير محكم. فإيرينا التي تم اغتصابها في الجزء الأول ونجت من الموت على يد المجند ابن عاملة تتحول إلى كونتيسة، لا يسألها زوجها الكونت عن ماضيها أو أصلها، ويعيش معها حياة هانئة حتى يظهر أحد قتلة زوجها السابق، فتخطط للذهاب إلى روسيا عبر اسم مستعار، بدعوى استعادة بعض مجوهراتها. يرسل الكونت من يتتبعها ليكون في حمايتها لدى تعرضها لأي شر، وعلى رغم أن رجاله يعلمونه بأنها قتلت ثلاثة بالسم، إلا أن حبه لها لا يتغير، ومن ثم يساعدها في قتل الرابع. تدهشك قدرة ناتاليا فيكو على إفساد نصها بيدها، فالرواية الملحمية تنتهي إلى «لا شيء»؛ حين تجعل إيرينا ياكوفليفنا تنتحر في مقهى في باريس، بعدما تعرف أن زوجها السابق، لم يقتل، بل إنه تولى منصباً رفيعاً في العهد الجديد. هكذا أقدمت على الانتحار من دون أن تفكر في سؤاله عما حدث، خصوصا أنها قرأت خبراً عن أنه في طريقه الى باريس في مهمة رسمية. وقبل ذلك، عفت عن الرجل الذي شغلت القارئ طيلة الجزء الثاني بمحاولات إيقاعها به، فاكتفت بأن رأته يتبول على نفسه رعباً، من أن تطلق الرصاص عليه، فما كان من رجال الكونت إلا أن قتلوه بسيارتهم، لتتساوى بربرية البروليتاريا مع عنف الأرستقراطية، وتصبح إدانة الجميع مجانية وبلا معنى، في نهاية نص بلغ أكثر من 450 صفحة من القطع الكبير.