رواية لبنانية عن زمان عبدالله بن المقفع كثيرا ما أكد الرواد الأوائل للرواية التاريخية في الأدب العربي، أمثال جرجي زيدان وسليم البستاني، أن الهدف من الرواية التاريخية هو تعليم التاريخ من أجل التوجيه والإرشاد، وهم بذلك لم يقبلوا مطلقاً باغتيال المعرفة التاريخية في نصوصهم. هذه المقاربة لم تعد تتماشى مع الرواية التاريخية اليوم. لذلك سعى الكتاب اليوم لإيجاد توليفة تجيز لهم أن يكونوا أمناء للمعرفة التاريخية من دون أن يمنع ذلك التفاعل مع هواجس الحاضر والانخراط في ما يفرضه السرد الوجداني والخيال. العرب [نُشرفي2016/11/28، العدد: 10469، ص(14)] استلهام التاريخ لدراسة الواقع بيروت - “رسالة النور” رواية عن زمان ابن المقفع يقدمها الكاتب محمد طرزي في إطار روائي فني يدور بين الماضي (في القرنين السابع والثامن للهجرة) وبين الحاضر (في القرن الحادي والعشرين)، حيث تدور أحداث الرواية- زمكانياً- بين دمشق والعراق وخراسان وتركيا (العثمانية) وتركيا (اليوم)، فكان الاختيار للأماكن والوقائع والأحداث مرتباً بعناية، وكذلك الشخصيات التي شاركت في هذه الأحداث، إذ نحن أمام شخصيات قرأنا عنها وعرفناها، تقولها الرواية عبر فضاء متخيل له جذوره الواقعية الصادقة، وقد راعى خلالها الكاتب الأمانتين التاريخية والروائية، فأخلص للتاريخ وللفن الروائي، ووازن بينهما في الوقت نفسه. شخصية ابن المقفع كما يشير العنوان تسلّط الرواية، الصادرة عن الدار العربية للعلوم ناشرون، الضوء على زاوية من زوايا شخصية ابن المقفع وعلى جانب من جوانب حياته وهو الجانب السياسي/ الإصلاحي، والذي من خلاله تُقدَّم سيرة ابن المقفع في الرواية وترتكز عليها في حضورها، وهو ما تطالعنا به شخصية البطل (أبوعمرو) والمقصود به “ابن المقفع” الذي وصل إلى دمشق قاطعاً المسافات قاصداً عبدالحميد الكاتب، “صاحب الديوان” في قصر الخليفة، طالباً منه العمل في دواوين الخلافة، لا طمعاً في مال ولا سعياً لمنصب، إنما ينشد بتقرّبه من الحكّام وضع كتاب لا يضلّون من بعده، كتاب يفيض حكمة وينضح عبراً، فيكون للسلاطين صلاحا وللرعية ضمانة لما سيُسرد فيه من ضروب في القضاء على الفساد وإصلاح القضاة والجند والخراج… هذا كان حلم الرجل… ولكن سيدرك بعد التجربة أن السبب الحقيقي لمجيئه إلى تلك البلاد أعمقُ من ذلك بكثير، وأن غايةً مقدسةً في أعنّة القدر هيّأت له كل أسباب تلك الرحلة وتلك النهاية. رواية محمد طرزي هي انعكاس لصورة الماضي في مرآة الحاضر بكل تجلياته سواء الظلامية منها أم المضيئة هذه الأحداث كما يقدّمها محمد طرزي في روايته ليست حياة ابن المقفع فحسب، بل هي حياة الصراع مع السلطة بتجلياتها المختلفة ولا سيما الجانب السياسي منها، فهو بالإضافة إلى سعيه لوضع كتاب ينشد صلاح الحاكم والمحكوم، كان رافضاً الدخول في حاشية السلطان والفقيه، ما يعني تقديم رؤية إصلاحية متقدمة على زمانها، يتم فيها الفصل بين ما هو ديني وسياسي، وهو ما لم تتقبّله السلطات السياسية والمجتمعية (الأعراف) لا في زمان ابن المقفع ولا في زماننا، وهي من جانب آخر، أي شخصية ابن المقفع كما تقدّمها الرواية، تشكّل ترجمة تاريخية لحياة المثقف العربي، بمفهومه المعاصر، في صراعه مع السلطة، وهي ثيمة قديمة جديدة يدفع ثمنها أصحاب الرأي الحر كما حصل لابن المقفع ومخطوطه الذي بدل أن يحرّر الأفكار سرت فيه النار وأكلت أوراقه. “… ثم أمر الوالي بالإجهاز على ابن المقفّع. وإذا بالشخصين اللذين قيّداه يقطّعان أعضاءه ويرميانها في التنور، إلى أن أتيا على جسده والمهلبي يقول: والله يا ابن الزنديقة لأحرقّنك بنار الدنيا قبل نار الآخرة”. والحقيقة أن الحوادث في “رسالة النور” مستندة إلى مراجع تاريخية كـ”مروج الذهب” للمسعودي، و”تاريخ الرسل والملوك” للطبري، و”الأغاني” لأبي الفرج الأصفهاني وغيرها من عيون المؤلفات العربية. لكن الكاتب يعترف بأنه في آخر الأمر يقدّم نصاً روائياً وليس دراسةً علميةً يمكن الاعتماد عليها كأي كتاب تاريخي. وبالتالي، فإن الأدب والخيال هما الحاكمان على التاريخ في الرواية وليس العكس. الرواية ليست حياة ابن المقفع فحسب بل هي حياة الصراع مع السلطة بتجلياتها المختلفة ولا سيما الجانب السياسي منها الواقع المرير تحاكي الرواية واقعنا المرير ومدى ارتباطه بالحاضر أي تناقش إشكالية الحكام والرعيّة. يقول المؤلف” الرواية هي انعكاس لصورة الماضي في مرآة الحاضر بكل تجليّاته سواء الظلامية منها أم المضيئة. فعلى سبيل المثال، هناك جانب مشرق ينعكس في الحقبتين الزمنيتين مفاده أن العلم الذي منع «رستم» من خيانة إرث ابن المقفع في منتصف القرن الثامن هو العلم نفسه الذي حال دون أن يقترف الإرهابي جريمته عام 2015. وهذا يشير إلى أن العلم يعصم من التطرف. أما الجانب المعتم فيتمثل بقتل ابن المقفع وعبدالحميد الكاتب وما يقابله اليوم من اغتيالات وتصفيات لمثقفين عرب لأسباب قد لا تختلف في جوهرها عن الأسباب التي ساقها القتلة لتصفية مثقفي ذلك الزمان”. من جهته يرى الشاعر جورج غنيمة أن محمد طرزي قد أطلق البصر حتى تمكن من الانتقال إلى البصيرة الروائيّة بلغة سرديّة وأسلوب وصفي مشوّق غير توثيقي بالمعنى الأكاديمي، حيث طرح معادلة المناخ “لا نهضة في ظل الاعتراض”. القمع من صفات الخليفة أو السلطان أو الحاكم لكي يتمكّن من تثبيت دعائم حكمه والسيطرة على زمام الأمور كما رأيناها بين العصرين الأموي والعباسي، مستشهداً بذلك على سياسة الثأر السياسي والاغتيالات في الأنظمة العربية التي ظهرت بشخصية أبي جعفر من استبداد وجور كما أُشير في الكتاب، متوقفاً عند إشكالية الرأي الآخر الذي رأى في أبي جعفر طاغية بنّاء أراد إعطاء الحرية وإلغاء جور وظلم العصر الأموي. ويتابع جورج غنيمة: إنّ معاناة المثقّف العربي بدأت في مراحل استبداد الحكام حيث رأينا في الرواية ابن المقفع وصديقه عبدالحميد يسعيان إلى إصلاح الحكم والحكّام من جهة وتوعية الرعيّة من جهة أخرى عبر العمل الفكري ألا وهو الكتابة، لأن النظرة السوية تُبنى على المعادلة العكسية في الظلم والحرية. يشار إلى أن محمد طرزي كاتب وروائي لبناني، من مواليد مدينة صور. صدرت له روايتا “النبوءة” و”جزر القرنفل”. :: اقرأ أيضاً فنان الميكانيكية الوحشية غيلبيرت بيار يعرض في باريس مسرحية حروب كرنفال الطائفية والهيمنة وصراع الميليشيات ثورة افتراضية: الفضاء الرقمي يعصف بمستقبل البشرية اختتام أيام قرطاج احتفى بشكسبير وكرم جليلة بكار والطيب الصديقي