خلال الفترة 2015/2016، بلغ متوسط نمو الناتج المحلي الإجمالي في منطقة اليورو %1.8، وهي نسبة أعلى بكثير من معدلات النمو المتوقعة لفترة ما بعد الأزمة التي قدرت بحوالي %1.0. وكانت أقوى العوامل الدافعة للنمو هي هبوط أسعار النفط، وضعف اليورو، والسياسة النقدية الميسرة. غير أن الوضع قد تغير الآن إذ بدأ الدعم الذي توفره هذه العوامل الثلاثة لاقتصادات المنطقة في التلاشي، الأمر الذي سيقود إلى التباطؤ المتوقع في النمو. لكن أحد الجوانب الإيجابية في هذا المشهد هو أن الفضاء المالي قد انفتح الآن، ويتوقع لبعض الاقتصادات الكبرى في منطقة اليورو أن تزيد حوافزها المالية، وهو ما من شأنه أن يعوض عن بعض التباطؤ في النمو. سنناقش فيما يلي تلك العوامل الرئيسية الثلاثة. أولا: عزز هبوط أسعار النفط نمو الاستهلاك في منطقة اليورو خلال 2015/2016 حيث تعد المنطقة أحد أكبر المستوردين للنفط. وقد انخفض متوسط أسعار النفط بنسبة %46 في عام 2015، ومن المتوقع لهذه الأسعار أن تنخفض أكثر بنسبة %16 في عام 2016. ولكننا نتوقع أن ترتفع أسعار النفط بنحو %22 في عام 2017 على خلفية النمو القوي في الطلب والتراجع الكبير في الإنتاج، خاصة في النفط الصخري للولايات المتحدة، كرد فعل لانخفاض الأسعار. ونتيجة لذلك من المرجح أن يصبح ارتفاع أسعار النفط عاملا معوقا للنمو في منطقة اليورو اعتبارا من العام المقبل. ثانيا: كانت السياسة النقدية من العوامل الداعمة للنمو في 2015/2016 حيث قام البنك المركزي الأوروبي بتخفيض أسعار الفائدة ووسع من برنامج التسهيل الكمي. لكن الخيارات المتاحة للبنك المركزي الأوروبي ربما تكون قد نفذت: فأسعار الفائدة الخاصة به قد وصلت إلى القاع مع تخفيض الفائدة على الودائع إلى %-0.4 في مارس 2016، وهناك مخاوف متزايدة بشأن تأثير أسعار الفائدة السلبية على ربحية البنوك، كما أن برنامج التيسير الكمي يهدف إلى تخفيض عائدات السندات طويلة الأمد، لكن لا يوجد مجال لخفضها أكثر، حيث تدنى العائد على السندات الألمانية لأجل عشر سنوات حاليا إلى %0.2، بينما بلغ العائد على السندات الإيطالية لأجل عشر سنوات %2.0. قيمة اليورو ثالثا: أدى تراجع قيمة اليورو في 2015 إلى زيادة تنافسية الشركات في الاتحاد الأوروبي، وهو ما ساعد في زيادة معدلات النمو. ولم تتراجع قيمة اليورو بشكل كبير مقابل الدولار الأميركي فحسب، بل تراجعت قيمته أيضا مقابل عملات شركائه التجاريين. فقد شهد سعر الصرف الفعلي الحقيقي الذي يقيس قيمة اليورو مقابل عملات شركائه التجاريين ويتغير بحسب اختلافات معدل التضخم، تراجعا بنسبة %14.4 في الفترة بين شهري مارس وأبريل من العام 2015، وهو ما دعم صافي الصادرات. لكن سعر الصرف الفعلي الحقيقي لليورو ارتفع بنسبة %5.5 منذ ذلك الوقت وبات الآن من العوامل المسببة لتراجع معدلات النمو في منطقة اليورو. وعلى الرغم من أن اليورو قد تراجع بشكل كبير مقابل الدولار الأميركي بعد الاضطرابات التي شهدتها الأسواق المالية عقب الانتخابات الأميركية، إلا أنه لا يزال مستقرا على نطاق واسع مقابل سلة العملات المرجحة بالتجارة. تلاشٍ ومع تلاشي العوامل المساعدة التي كانت تدعم النمو في منطقة اليورو، من المحتمل أن يزيد اعتماد المنطقة على السياسة المالية لتحفيز النمو. ونتوقع أن يشهد عام 2017 تحفيزات مالية لثلاثة أسباب رئيسية، أولا: تحسن المجال المالي بفضل تراجع نسبة الدين الحكومي من الناتج المحلي الإجمالي في منطقة اليورو من الذروة التي بلغها في 2014 بنسبة %94.3 إلى %91.7 في 2016، ومن المتوقع أن يستمر في التراجع. وقد ساعد انخفاض أسعار الفائدة وقوة النمو في تقليص عبء الديون. ثانيا: يعتبر عام 2017 سنة الانتخابات بامتياز في منطقة اليورو، مع الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في فرنسا وألمانيا والانتخابات العامة في هولندا. وعادة ما تستخدم الحكومات موازنات العام الذي يشهد الانتخابات لزيادة التحفيزات المالية من أجل تحسين الأوضاع الاقتصادية لكسب أصوات الناخبين. وبالنظر إلى المخاوف التي تطغى على النخبة الحاكمة في أوروبا حيال تزايد موجة الشعوبية بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وانتخاب ترامب رئيسا للولايات المتحدة، من المرجح أن تؤدي الانتخابات إلى دعم أقوى من العادة للنمو في 2017 حيث تميل الحكومات إلى سياسات أكثر شعوبية في الإنفاق وتخفيضات في الضرائب. وأخيرا، فقد قدمت حكومات منطقة اليورو مسبقا مسودة الموازنات المعدة لعام 2017 إلى المفوضية الأوروبية. وتنطوي هذه الموازنات على تسهيلات مالية، تحديدا في ألمانيا وإيطاليا. نتيجة لذلك، نتوقع أن يأتي النمو في حدود %1.5 في منطقة اليورو في عام 2017 حيث يتم التعويض عن تلاشي العوامل المساعدة جزئيا فقط من خلال التحول إلى سياسة مالية أكثر دعما. ترامب ولا تلعب السياسة المالية هذا الدور البارز في منطقة اليورو فقط، فقد تعهد ترامب بإطلاق تحفيزات مالية كبيرة من خلال التخفيضات الضريبية والإنفاق في البنية التحتية، كما أعلنت اليابان دعما بقيمة 45 مليار دولار أميركي للإنفاق في شهر أغسطس 2016، وهو ما يعادل حوالي %1 من الناتج المحلي الإجمالي. وكما في أوروبا أدت السياسة النقدية غير التقليدية في الاقتصادات المتقدمة بشكل عام إلى تخفيض أسعار الفائدة العالمية، مما قلص تكاليف الاقتراض للحكومات وفتح المجال لإطلاق تحفيزات مالية. ومن شأن السياسة المالية أن تبرهن أنها أقوى بكثير من السياسة النقدية في دعم الطلب الكلي في ظل مناخ من أسعار الفائدة المنخفضة، بل وحتى السلبية. ومن شأن ارتفاع الطلب الكلي أن يساعد الاقتصاد العالمي على تجنب الضغوط الانكماشية وتراجع النمو اللذان ظلا يخيمان على الاقتصاد منذ الأزمة المالية. لكن الموجة المتزايدة من الإجراءات الشعوبية قد تزيد من حالة عدم اليقين السياسي وتؤدي إلى ارتفاع السياسات الحمائية، ومن شأن كلا هذين العاملين أن يكون لهما أثر سلبي على النمو يقضي على التأثير الإيجابي للتحفيزات المالية.;